كان خطاب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في نواكشوط فاتح شهر مارس عام 2019، غِبّ ترشحه للانتخابات الرئاسية، خطابا لا نمطيا بامتياز، كسر فيه أنماطا مختلفة وقوّض مألوفات شتى، حين خرق قاعدة سيئة رافقت حكام هذا البلاد ردحا من الزمن، فأقر لأسلافه من الأنظمة السابقة بالإنجاز كل حسب اجتهاده، في حين كنا قد درجنا على عُرف منبوذ وتقليد ممقوت، إذ كلما جاء حُكم سفّهَ أحلام أسلافه واستدر الشرعية بالهجوم على نهجهم وتبخيس ميراثهم، وكلما دخلت أمة لعنت أختها.
ولم يكن خطاب إعلان الترشح يتيما في تجاوز الصورة النمطية للحاكم في هذا البلد، فقد استمر طيلة حملته الانتخابية ينحو ذلك النحو على ذات المنوال، ناقضا ثوابت بغيضة في خطاباتنا السياسية، فأعرض صفحا عن التعريض بمنافسيه وانتقاد خصومه السياسيين والغمز من قناتهم، تاركا تصيد الإساءة واستدرارها لمن ألِفته وألِفها، فكانت حملته الانتخابية وخطاباته، دليلا قاطعا لا ريب فيه، على أننا أمام نمط جديد من الحكام لم نعرف له من قبل نسقا في حكامنا الأولين، ممتنعا عن اقتفاء المعهود في تاريخ صراعنا السياسي، من التنابز بالاتهامات والتراشق بالانتقادات، والتخوين والتبخيس، وتحميل الماضي مساوئ الحاضر وإكراهات المستقبل.
وحين أذن الله وحكم الرجل البلد، جاءت تصرفاته وأفعاله هي الأخرى كسرا لنمط تسيير الحكم الذي اعتدناه وسئم الناس منه عقودا مريرة، فكان منطق الشراكة والمشورة، ونبذ المشاكسة والمشاحنة، هو الخيط الناظم لمسار التعاطي مع المعارضة، بما في ذلك الراديكالية منها، والتي فُتِّحت أبواب القصر الرئاسي أمامها، كما فتِّحت أمام غيرها، بعد أن غُلقت من قبل أمام سائر القوى السياسية المعارضة.
ويواصل الغزواني التمرد على النمطية المخادعة، فخلال إحدى جولاته التفقدية للقطاعات الخدمية، كان يتحدث إلى إحدى نزيلات مستشفى الشيخ زايد بنواكشوط، التي شكت له صعوبة ظروف المرضى في المستشفى، فلم يكن رده نمطيا مجافيا للصواب مجانبا للحق، بل كان صادما للبعض ممن تعودوا المخاتلة والمخادعة، صادقا مع الجميع دون مواربة أو تخرص، عازفا عن ذرائع الزاعمين أن كل شيء على ما يرام، فأقر لها بصعوبة الأوضاع وقوة الضغط، واعدا بأن حكومته لن تألو جهدا في تحسين الأوضاع وتجاوز الصعاب.
وتستمر لا نمطية الغزواني الإيجابية، في أفعاله وخطاباته، لتبلغ ذروتها في وادان، حيث باغت الجميع بخطاب ناصع واضح لا مراوغة فيه ولا تورية، رفع فيه سقف منطق الصراحة والمكاشفة، بنبرة المنتقد الثائر على أشلاء قيم جاهلية تشوب موروثنا الثقافي، وتعوق مسيرتنا كمجتمع يسعى إلى تأسيس دولة الحداثة، تلك القيم المؤسِسة للتراتبية الاجتماعية المكرسة لاحتقار الناس والنظر إليهم بعين الدونية، على أساس أحسابهم وأنسابهم وأعمالهم، فكان جازما في خطابه قاطعا في وعده أن دولة المواطنة هي الخيار الأوحد لهذه الشعب، فلا محيد عنها ولا بديل، وهي صراحة ومجاهرة بالإنصاف ما عهدناها في سادتنا وكبرائنا السابقين.
أما العجب العجاب فهو أن نجد اليوم من نواعق وسائل التواصل الاجتماعي، وعوالق المشهد السياسي، من يستغرب وينتقد صراحة الرجل وحرارة صدقية حديثه، أمام الجالية الموريتانية في إسبانيا، لأنه قال ما نعرفه جميعا، ونتحاشى البوح به في نوادينا الرسمية، وقد مَرَدَت أنظمتنا السابقة على دفن الرؤوس عنه وسط رمال التجاهل والنكران، ووصمت من يصرح به بالسعي لتشويه الوطن والإساءة إلى سمعته، وإشاعة اليأس بين الناس.
لقد صَدَقَنا ولد الغزواني اليوم كما صَدَقَنا من قبل في وادان ونواكشوط، فنحن بلد فقير، هذا هو واقعنا، وذلك هو تصنيف العالم لنا، وهنا قد يقول قائل إن أرضنا غنية بالمُقدِرات، وسواحلنا زاخرة بأفانين الأسماك، وهي مقولة صِدق لا شية فيها، لكننا فاشلون في الاستفادة من خيرات أرضنا، وعاجزون عن استغلال طيبات محيطنا، لذلك نحن فقراء ومتخلفون، فهل أنتم مغنون عنا بالتدوين البذيء والفجور في السب والخصومة، نصيبا من الفقر والتخلف، كلا، لقد صدق الرجل وكذبتم وكنتم قوما بورا.
لكننا قادرون ـ كما قال رئيس الجمهورية ـ على تحطيم سُجف الفقر ونسف جُدر البؤس والتخلف، وتلمس نور التقدم والرقي، إن نحن واصلنا السير قدما سواء السبيل، ونبذنا أسباب التخلف واتخذنا عوائق التقدم وراءنا ظهريا، فالضوء في نهاية النفق يقترب رويدا رويدا، ونحن واصلوه بإذن الله.
ولعل في العامين الفارطين من حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ما يرفع غشاوة اليأس ويبعث روح الأمل في قهر البؤس والتخلف، رغم أن "كورونا" لم يمهل نظامه كثيرا، فأدخل البلاد ـ كما العالم بأسره ـ بعد أشهر من وصوله إلى السلطة، في حالة طوارئ صحية واقتصادية واجتماعية لا مرد لها، لكنه أصر على أن يحارب كورونا وتداعياته على جبهة بذل فيها الغالي والنفيس، وأن يمضي قدما ـ على جبهة أخرى ـ في حرب لا هوادة فيها على الفقر والتخلف، بتنفيذ تعهداته للمواطنين، وإشاعة الإخاء والطمأنينة بينهم، ونزع فتيل كل بؤر التشنج والفئوية والغبن وسائر بوائق التخلف والخصاصة، وتلك بوادر أشراط التقدم، ومطالع دروب النماء.