تعد الجريمة إحدى الآفات الاجتماعية التي تظهر حين يتم التخلي عن منظومة الضبط الذاتي لدى الفرد أو الجماعة داخل مجتمع ما. ولذلك فهي تكثر في المدن الكبرى حيث يستحيل التعرف والتعارف فيما بين افراد المجتمع مما يشجع بعضهم على الانحلال من الضوابط الأخلاقية والدينية ويجعله في صدام دائم مع الضوابط القانونية. من هنا يجب الانتباه إلى أن المسؤولية عن أمن أي مجتمع هي ثلاثية الأبعاد تترتب وفقا لمستويات ثلاثة:
المستوى الأول حيث تتحدد فيه مسؤولية الأفراد أنفسهم.. وهنا لا نعني ضحايا الجريمة فقط وإنما المجرمين أيضا، فهؤلاء هم المسؤول الأول والمباشر عن حوادث الأمن والجرائم؛
المستوى الثاني وتقع فيه المسؤولية على المجتمع بأسره.. حيث يعد ركون بعض أعضائه إلى الإساءة للبعض الآخر فشل ذريع في ضبط وتسيير علاقاته البينية من خلال منظومته الأخلاقية؛
المستوى الثالث وتثار فيه مسؤولية السلطات الاقليمية والجهات الأمنية التي تكلفها الدولة بالسهر على تنفيذ الخطط الأمنية.
لا أريد أن أتعرض هنا لدراسة الواقع السيكولوجي الذي يمر به المجتمع الموريتاني مع التحول من حياة ريفية بسيطة وهادئة إلى حياة المدينة المعقدة والصاخبة، ولا إلى تفصيل بحثي لتحديد المسؤوليات أو تدافعها، بل أريد فقط أن أنبه إلى خطورة أن يحل رواد العالم الافتراضي محل أبطال الحياة الواقعية وأهل الذكر والمشورة.. إذ لا شيء يبرر إطلاقا تراجع العمل الإعلامي المهني أمام سيول المعلومات المضللة في الكتابات الساذجة.. ولا تحفظ أهل المعرفة والمختصين أمام اندفاع الجهلة والهواة.. ولا استقالة الحكماء والعاقلين أمام اصرار السفهاء والغوغائيين..
ومع الأسف هذا هو الواقع الذي يسميه أحد المفكرين المعاصرين ب "سيطرة التفاهة".. فمن التفاهة فعلا أن يجلس أحدنا خلف شاشة جهازه في مكان مريح يحتسي كأسا من الشاي ويداعب لوحة الكتابة مرسلا كلمات تنتقد وتنتقص من جهود رجال يعملون ليل نهار حتى يظل هو وأمثاله متفرغين لهواياتهم.. ومن أولئك الرجال من يقف لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ومنهم من يبيت ساهرا بعيدا عن أهله وذويه.. إنهم ينفذون أوامر وتوجيهات من مسؤولين مدنيين وعسكريين مرّوا من هناك قبل ان يتم اختيارهم للمناصب على أساس التجربة والمهنية في الأداء.. وقد يغيب عن الأبطال "الزرق" أن الجميع يطبق خططا وبرامج ضمن استراتيجيات متكاملة دائمة التحديث لتوائم المستجدات ومتطلبات الأوضاع تم وضع خطوطها العريضة مسبقا من لدن أعلى السلطات في البلد..
ومن أجل تبيان هذه الحقائق وخلق رأي عام وطني سليم غير الذي يتولد من تفاهات الفضاء الأزرق، يجب على نخب الواقع في كل المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والاكاديمية والنقابية.. ان تتصدى لطغيان التفاهة وتقوم بمسؤولياتها في التوجيه والتأطير ووضع الحلول.. على هذه النخب أن تدرك ان العالم الافتراضي لم يعد ظلا موازيا للواقع.. بل تداخلت الفضاءات باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في جميع جوانب الحياة العامة والخاصة.. واصبحت الوسائط المتعددة (الصورة والصوت والحرف) من أهم الاسلحة الفتاكة في القرن 21.. ..فعالة في الهدم أو البناء حسب الاستخدام ويتساوى في استعمالها الجميع.. فإذا تركت النخب الوطنية هذه الاسلحة دون رقابة أو رعاية أو توجيه تعبث بها الأيادي الخفية والجلية ضد مصالح البلاد والعباد وتدنيس مقدساتها وإهانة رموزها وتفتيت وحدتها والمساس بامنها وزعزعة سكينتها.. فالنخب تتحمل إذن الجانب الأكبر من المسؤولية عن كل جناية او جنحة أو مخالفة ترتكب بجهل او تجاهل أو جهالة..
من حق العامة أن تركز على الجرائم الاستعراضية للمنحرفين فلا يعاب عليها التفاعل البهلواني مع الاحداث.. لكن واجب النخب هو استشراف المآلات و معالجتها قبل وقوع السيئات.. ولا يجب اقتصار الموضوع على مجرد الجرائم العلنية او على تصرفات مجرمين دون آخرين.. فتحقيق أي مصلحة خاصة على حساب المصلحة العامة هو خيانة عظمى.. والانتقاص من المعتقدات ورموز السيادة هو جناية كبرى.. والاضرار بوحدة الشعب وسكينة افراده جريمة شنعاء.. على المجتمع العمل على منع ظهور الجريمة وعلى الدولة معاقبة مرتكبيها.. فالعلاقة بين الدولة والمجتمع يجب ان تكون علاقة تكامل وتناغم لا علاقة تجاذب وتصادم..
إن أي مراقب نزيه الفكر يدرك جيدا ن الحكومة الموريتانية تسيطر جيدا على الوضع الأمني في البلاد وهذا ما تثبته سرعة إلقاء القبض على المجرمين وتبيّنه الإحصائيات التي تؤكد أن موريتانيا من أقل البلدان إقليميا ودوليا معدلا للأحداث الأمنية والجرائم المجتمعية.. ويعلم علم اليقين أن لا سلطة في العالم يمكن أن تضع خلف كل مواطن رجل أمن يتابعه يوميا حتى إذا رفع يده لمخالفة الضوابط أطلقت عليه النار أو أوقفته.. مثل هذا التصور يتولد عند بعض العامة بإيعاز من المفكرين الافتراضيين في العالم الأزرق حيث لا زالت الضوابط القانونية والأخلاقية لهذا العالم في طور التشكيل والتطبيق التجريبي..
بيد أن الجميع يجب أن يعلم أن القانون لم يعد يفرق عند إثارة المسؤولية الجنائية في حماية المراكز القانونية ما بين الفعل جهارا على أرض الواقع والتصرف خفية في الفضاء الافتراضي.. ومن أهم هذه المراكز وأكثرها حساسية مركز رئيس الجمهورية.. من يشغله يكون رمز الدولة الأول ومن واجب الجميع تبني رمزيته والالتفاف حولها كلما داهم المجتمع خطب او تعرض لخطر داخلي أو خارجي.. إن لم يكن لتبعات الوفاء للوطن كما في سائر البلدان فخوفا من متابعات القضاء.. وعليه فلننتبه جيدا حين نتحدث عن السيد محمد ولد الشيخ الغزواني.. نعم هو شخصية عمومية لكنه الآن في مركز يفرض سياسيا واجتماعيا، قانونيا وأخلاقيا، الكثير من التحفظ والاحترام تجاهه.. إن لم يكن تقديرا لمؤسسة رئاسة الجمهورية فلقدرته الفائقة على رفع التحديات..
لإن الرجل الذي استطاع بخبرته كمحارب أن يضمن أمن موريتانيا خارجيا في مواجهة المقاتلين والإرهابيين وهو مجرد قائد للجيش ، لقادر وقد أصبح قائدا لكامل أجهزة الدولة على بسط الأمن في الداخل واستئصال ثلة من المنحرفين.. وبحكم تجربته الطويلة في دهاليز الدولة ومهاراته في اتخاذ القرارات بحنكة وتروية فإن قرارته في اختيار الرجال ووضع الحلول يجب ان تكون محل احترام ودعم من طرف كل الغيورين على مصلحة الوطن والمواطنين.. خاصة من لدن داعميه الذين يجب ان لا ينجروا وراء الدعايات المغرضة المشككة في تعهداته وخياراته..
د. حاتم ولد محمد المامي
استاذ جامعي في القانون العام