كانت أوروبا تهمس لآخر صيف من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين: عجز الدولة وتشرد النخب الحاكمة كحل نهائي يطال حياة وشرف نخب العالم التي لفظها واقع الاستبداد في الجنوب؛ وكان جيلي منهمكا في تقصي خارطة نخوة المتنبي ورفعة العرب؛ متدثرا بالرفض وذكرى الوطن الجميل؛
أودعت حاشية تقفي متن إبداع المتنبي موئل روحي للتفرغ للانتماء المطلق للتغيير البناء ومرافقة ملهمه وقائده نحو موطن غادية النصر؛
في موريتانيا الجديدة : انشغل خليفة ببكر بن عامر وبكار الغول بتعليق وسام الامتنان على صدر آخر أحياء ملحمة أم التونسي باسم الأمة الموريتانية.
و من العلياء تهاطلت زخات السؤدد وعلى بلاط الكبرياء تناثرت ورود المجد: تدلت ألسنة رامت لعق مرق السطو وعلف الخردة. و من مضامين الحتميات السخيفة التحفت الأبدان بثوب القداسة المفصل من خيوط وثنية بهيمية خارج تراتيل تاريخ حياتنا الروحية.
إن حتمية التمايز بين ثوابت الانتماء للوطن ومتغيرات الأبعاد الإجرامية لصهيل الوثنية تملي على الشباب الموريتاني استعادة يقظته لامتلاك منابر الحق .
و لأن خصوم التغيير البناء الذي أرسى القطيعة وشرع في إنقاذ "البنيان المائل"، هم نفسهم أعداء وحدة موريتانيا واستقرارها وجيوشها وسيادتها، والحاقدين على قائدها المجسد والضامن لاستمرارية الدولة وانتظام حياة مؤسساتها؛ ولدفق أمراض القلوب في تلك العليلة ؛ يتعين على النخب الوطنية خوض معركة مسح طاولة تسلق المنابر وإعفاء الكتش المهيمن على المشهد بقوة المال وذر أوراد الفتنة، لخوض معركة إعادة التأسيس بإرادة الشعب وحماسه ومرافقة الجمهورية الثالثة، بعد التحرر من وصاية وقيود أحزاب ماقبل التأميم وسك الأوقية ووجهاء الهياكل.
تعتبر الحياة الدستورية في موريتانيا تجسيدا لمسار رافق مشروع الدولة المدنية ومؤسساتها التي رامت لها مختلف الأجيال السياسية سقف النظام الاستعماري ومتغيراته في إفريقيا الفرانكفونية، مع تحييد حتميات الهوية والخصوصية من حيّز ورشة تشييد المؤسسات التي لم تستوعب بالضرورة لا الخلفية الحضارية ولا ثقل الطموحات التقدمية للنخب الوطنية.
تقاعس المشروع الوطني لصالح وهم الديمقراطية الأممية، ومطالب الحريات كما صاغها تنظير مؤتمر برلين، لا كما أملاها التحول الميكانيكي للمجتمع في صراعه الحضاري ضد بنيان الحيف وواقع الغبن وإكراهات البيئة و الجغرافيا.
أثرى التغيير البناء الحياة الدستورية لموريتانيا التي كانت تراوح مابين الخضوع للقانون الداخلي اللامركزي لفرنسا الاستعمارية، إلى إرساء "الحزب الواحد" وسيادة "المواثيق الدستورية"، ثم دسترة "التعددية" المعطلة، عبر مسار إعادة التأسيس، الذي أرسى التعددية وآلية الشفافية وألغى المصادرة، ليلجأ، أمام أول هزة شهدها هذا المسار إلى تطبيق فعلي للفصل الخامس كحالة فريدة في محيطينا.
رغم محاولات تعطيل المسار، طفق مدسترا تجريم الرق والتعذيب ، وتكريس استقلالية القضاء ، وتعزيز دور ومكانة الجيش وتجريم التغييرات اللادستورية والانقلابات العسكرية، ومعاقبة مرتكبيها، والشخصيات والأحزاب السياسية المساهمة فيها أو المشجعة لها، والتي لا تتقادم الجرائم المترتبة عنها.
وأدخل على رموز السيادة الروح الوطنية التي كانت تفتقدها ، وتبنى تاريخ المقاومة وأبطالها الشهداء، إضافة إلى دور شهداء قواتنا المسلحة وقوات أمننا الذين سقطوا على ساحات الشرف دفاعا عن أمن وحوزة وسيادة الأمة الموريتانية. وتحرر المشهد الدستوري من ارتهان غرفة الشيوخ وماتمثل من سذاجة المحاكاة وتعطيل التشريع وهدر المال العام وتكريس الزبونية والرشوة في نظامنا الديمقراطي.
واصلت هيمنة الإمبريالية الدستورية تحكمها في الانتقال الذي عقب سقوط بنيان دمقرطة "لابول"، من خلال تشكيلات معارضة صاغت منظمات السياحة الحقوقية خطابها على عجل وأودعته علف مخابر الامتهان في ساحات ومنابر البنت البكر لأنظمة تناوب الفدان واستقرار ازدواجية المعايير الأممية.
تمكن التغيير البناء من حلحلة جمود موازين القوى وقلب مجن دعاة "تغيير" يلغي المكتسبات ويستهدف منطق وفلسفة الامتهان، من خلال التمسك بأولوية تشييد عمران الشفافية وترسيخ الحريات ومواجهة إرهاب الخطاب وصولة دعاته، وتطهير المشهد عبر تجديد الطبقة السياسية.
أما الآن وقد استوفى الامتهان الجهد الضروري لإخراج صقور "المؤتمرات الوطنية" و"الثورة" ضد المجموعة الوطنية ومصالحها، من المشهد وترسيخ الديمقراطية وانتظام حياة المؤسسات، فيتحين على النخب الوطنية مرافقة الجمهورية الثالثة بإلغاء تلجيم الشعب وملائمة الحياة الدستورية مع فلسفة وقواعد الديمقراطية التي تعتمد الشعب كمرجعية للسلطة وتلغي كل قيد يكرس جمود حركية المجتمع والدولة وحياة المؤسسات المجسدة لها.
بعد كسب معركة الحريات وانسيابية الحياة الديمقراطية، أفرغ "الرفض" من محتواه الأخلاقي وخرج من دائرة التصنيف السياسي، إلى متن الفعل الإجرامي متشبثا بسلوك الفساد العابر للحدود بقوة اقتصاد الجريمة وهياكل المنظمات والأحزاب والشخصيات التي أصبحت تستهدف استقرار الدولة ومؤسساتها.
فقد أصبح رموز فساد الدولة والمجتمع خلال العقود الماضية، ومايمثلون من طفرة مالية ونوايا إجرامية، أعداء حقيقيين لنظامنا الديمقراطي وخياراتنا التقدمية ومسيرتنا التنموية وطمأنينة وسكينة نظام التوزيع العادل للثروات وواقع العدل والمساواة.
سخرت ثروة الفساد العابر للحدود في تحالف مع بعض أحزاب المعارضة والمنظمات العنصرية، لمحاولة ترسيم خطاب يتبنى "التغييرات" اللادستورية من خلال محاولة ركوب موجة "الربيع العربي"، وتمرير الخطابات العنصرية الفئوية والطائفية في الأوساط النقابية، وشراء ذمم المنتخبين وتمويل نشاطات الأحزاب المناهضة للخيارات الشرعية للمجتمع والدولة، واستهداف النظام الديمقراطي ومؤسساته الدستورية.
يتعين على النخبة الوطنية والشركاء مرافقة وتأطير الشعب في لحظة ثورية لمسار انتصاراته ضد الغبن والحيف والاستبداد وقطع الطريق أمام دعاة الوثنية الدستورية وما يمثلون من خطر فعلي على الديمقراطية ومكتسبات الأمة الموريتانية وأمن واستقرار المنطقة والعالم.
عبد الله يعقوب حرمة الله