سياسي مغربي يساري من مؤسسي حزب الاستقلال. عارض الحكم الملكي وتوترت علاقته بالقصر فاضطر إلى الخروج من البلاد. اختطف عام 1965 وانقطعت أخباره، وما تزال أسرته تطالب بكشف أسرار مقتله.
المولد والنشأة
ولد المهدي بن بركة في يناير/كانون الثاني عام 1920 في الرباط بالمغرب.
الدراسة والتكوين
درس بكوليج مولاي يوسف في الرباط، وظل يعمل -مع الدارسة- محاسبا بسيطا في أسواق الجملة لمساعدة أسرته. كان عضوا بالفرقة المسرحية داخل الكوليج الذي كان يدرس به أبناء المعمرين والأعيان فقط، واشتهر بتفوقه الدراسي، ويُروى أنه عندما كان المعلم يتخلف عن الحضور إلى الفصل، كان المهدي يُكلف بإلقاء الدرس بدلا منه.
حصل على أول بكالوريا عام 1938، كما حصل على دبلوم بشعبة الدراسات الإسلامية بعدها بفترة قصيرة.
سطع نجمه فلفت إليه انتباه المقيم العام الفرنسي الجنرال نوكيز الذي أرسله برفقة تلامذة متفوقين في رحلة إلى العاصمة باريس.
ولم تكد تمر سنة واحدة حتى نجح في تحقيق حلمه بدراسة الرياضيات وحصل على البكالوريا في هذا الاختصاص سنة 1939.
كان يريد أن يكمل دراسته في فرنسا، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية دفعه لتغيير خططه، وتوجه إلى الجزائر وهي وقتئذ تحت الاحتلال الفرنسي، وحصل هناك على شهادة البكالوريوس في الرياضيات، ليصبح بذلك أول مغربي يحقق هذا الإنجاز.
الوظائف والمسؤوليات
بعد حصوله على البكالوريوس، تمكن بن بركة من الولوج إلى المدرسة الملكية في منتصف أربعينيات القرن العشرين لتدريس ولي العهد آنذاك الحسن الثاني ورفاقه مادة الرياضيات، فجمعت الدراسة بين الأمير والأستاذ، غير أن السياسة والطموحات الشخصية فرقتهما لاحقا.
التجربة السياسية
في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات عصفت أحداث كثيرة بالمغرب الذي كان وقتها يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي، وتنامت ـ في هذه الأجواءـ مشاعر الوطنية في نفوس الشباب التواق إلى طرد المحتل.
في هذا السياق وقّع المهدي بن بركة يوم 11 يناير/كانون الثاني 1944 ـوعمره 24 سنة فقط ـ على وثيقة المطالبة بالاستقلال التي طالبت فرنسا بالرحيل عن المغرب، وتسليم السلطة إلى القيادة الشرعية للبلاد ممثلة وقتها في السلطان محمد بن يوسف الملقب بمحمد الخامس.
أحدث صدور الوثيقة رجة سياسية في المغرب، فقامت مظاهرات حاشدة في الحواضر الكبرى وفي مقدمتها الرباط وسلا وفاس، وخرج الآلاف يطالبون بالاستقلال، ويؤي دون كل ما جاء في الوثيقة.
غير أن فرنسا اختارت التصعيد، واعتقلت كثيرين بينهم بن بركة الذي قضى في السجن بضع شهور قبل أن يخرج ويخصص له حزب الاستقلال ـوكان أحد مؤسسيه ـ استقبالا كبيرا.
أقلقت حيوية المهدي الاحتلال الفرنسي الذي قرر اعتقاله مجددا عام 1951 ونفيه إلى الصحراء جنوب البلاد، ووحدها زوجته من كانت تزوره مرتين في السنة، وكانت تحتاج إلى يومين كاملين لتصل إليه، بحسب ما حكاه ابنهما البشير.
لم يفرج عنه إلا عام 1954، أي بعد سنة من نفي محمد الخامس والأسرة الملكية إلى جزيرة كورسيكا.
نشط بن بركة في العمل السياسي المطالب بعودة الملك من المنفى وخروج المحتل الفرنسي، وطالب خلال عدة لقاءات جماهيرية بتوحيد الجهود السياسية لإخراج المحتل وعودة الشرعية الحاكمة.
وبفضل هذه المواقف وغيرها، تبوأ بن بركة بعد استقلال المغرب رسميا عام 1956 منزلة خاصة داخل هرم السلطة، حيث عُين في العام نفسه رئيسا للمجلس الاستشاري الذي ضم ممثلين من مختلف الهيئات السياسية والنقابية، وجعل منه بن بركة مدرسة للتدرب على ممارسة الديمقراطية.
حل المجلس عام 1959، وهي السنة نفسها التي عقد فيها بن بركة وثلة من رفاقه وبينهم عبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، لقاء أعلنوا فيه الانشقاق عن حزب الاستقلال، وتأسيس حزب جديد تحت اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عنوانه معارضة نظام حكم الملك.
أعلن المهدي عن نفسه في المعارضة بوضوح، وأسس جريدة التحرير التي كانت توجه انتقادات لاذعة للمؤسسة الملكية، وللموالين لها، وازداد الوضع سوءا بعد وفاة السلطان محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس) عام 1961.
ولم يكن بن بركة وحزبه الأول (الاستقلال) والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعيدين عن النقد، حيث اتهمت قيادات منهم بمحاولة الاستفراد بالحياة السياسية وتكريس حكم الحزب الوحيد، عبر إقصاء المخالفين بل وحتى اعتقالهم وتصفيتهم، والإشراف على مراكز اعتقال وتعذيب سرية لتحقيق هذا الهدف، أحدها كان مرعبا واسمه دار بريشة بالقرب من تطوان شمال المغرب.
وتتهم زوجة القيادي الأبرز بجيش التحرير عباس المساعدي بن بركة بقتل زوجها الذي كان يرى في المهدي خطرا على المقاومة المسلحة للاستعمار، بينما دافع المؤيدون لبن بركة عنه بالقول إن المهدي كان يريد التفاوض مع المساعدي حول مستقبل جيش التحرير، لكن الفرقة التي ذهبت لمرافقته تسببت في قتله بش كل غير متعمد.
ومع اتساع الهوة في المواقف بين القصر وحزب بن بركة الجديد، بدأ المهدي يفكر في مغادرة المغرب بعد ظهور مؤشرات تؤكد أن حياته أصبحت في خطر.
توجه بأسرته إلى الجزائر أولا والتقى هناك بالزعيم اليساري تشي غيفارا وقيادات ثورية عالمية، ثم انتقل إلى مصر.
كان كثير التجوال ليس فقط للدفاع عن مواقفه فيما يرتبط بقضايا المغرب، بل أيضا لدعم حركات التحرر في الوطن العربي والعالم، وظل لنحو ثلاث سنوات يعد برفقة أبرز القيادات الثورية اليسارية في العالم لإنجاح مؤتمر قاري قرر عقده في هافانا عام 1966. وكان الاستعداد لهذا المؤتمر هو الطعم الذي اختير لاصطياده.
كان ذلك صباح 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965 بالقرب من مقهى ليب وسط العاصمة باريس. كان بن بركة على موعد مع مخرج لإنجاز وثائقي عن حركات التحرر العالمية بعنوان “كفى BASTA”.
وعندما خرج من المقهى قابله شرطيان، طلبا منه الصعود معهم إلى السيارة، وهو ما فعله بعد أن تأكد من هويتهما المهنية.
يحكي جورج فيغون أحد من شاركوا في الجريمة، في مقالة كتبها بجريدة الإكسبريس الفرنسية عام 1965 قبل أن ينتحر، أن الشرطيين نقلاه إلى فيلا بضواحي العاصمة باريس، حيث أخبراه أنه سيلتقي بمسؤول فرنسي كبير.
ويزيد موضحا أن بن بركة ساورته شكوك في البداية، لكن رجال المخابرات السرية كانوا حريصين على طمأنته بأن الأمر يتعلق فعلا بمسؤول كبير يريد لقاءه بعيدا عن وسائل الإعلام.
بالموازاة مع ذلك كانت الاستعداد جارية على قدم وساق لاستقبال الجنرالين المغربيين محمد أوفقير ورفيقه أحمد الدليمي الذين سيحلان بالفيلا صباح اليوم الموالي.
وتشير إحدى الروايات الرائجة إلى أن بن بركة تعرض لتخدير وتعذيب شديد على يد ضباط الاستخبارات الفرنسية قبل أن يتسلمه الجنرال أوفقير ورفاقه ويصبح جثة هامدة.
لا أحد يعرف تفاصيل ما جرى بعد ذلك بالضبط، وأين تم إخفاء الجثة وهل هربت إلى المغرب، أم دفنت في فرنسا، فقد تضاربت الروايات بشأن ذلك، ولا دليل يرجح إحداها.
وقد برأ الحسن الثاني نظامه من تهمة التورط في تلك الجريمة، وقال في كتابه ذاكرة ملك، إنه فوجئ بخبر مقتل معلمه، خاصة أنه كان يسعى لفتح الحوار معه، وأرسل له ابن عمه الأمير مولاي علي ليطلب منه العودة إلى البلاد “ليحل برفقة أستاذه في الرياضيات طلاسم معادلة خاصة بالمغرب”.
لقد حولت الجريمة المهدي إلى أسطورة، بينما أسرته لا ترى فيه سوى أب مفقود تحتاج لأن تجد لجثته أثرا لتضعها داخل لحد يمكنها زيارته وقراءة الفاتحة على روح صاحبه.