حرية التعبير بشكل عام أو حرية الإعلام أو حرية الصحافة بشكل أخص شهدت في موريتانيا على مدى الخمسين سنة الماضية مسارا مضطربا تميز في معظم الأحيان بالتضييق والمصادرة والإغلاق.
وفى بداية التسعينات من القرن الماضي ونتيجة لظروف دولية، وإقليمية، وداخلية، تحققت مجموعة من الإصلاحات في ظل دستور1991 الذي وصف حينها بأنه دستور التعددية.
ومع بداية القرن الحالي وتحديدا في العشرية الأولي شهدت البلاد تغيرات سياسية، من ضمن ما ترتب عليها إنشاء لجنة وطنية لإصلاح قطاع الصحافة والسمعيات البصرية عهد إليها بإقتراح إجراءات تهدف لإصلاح القطاع، ومثلت تلك الاقتراحات البداية الأولى لتحرير المجال السمعي البصري، و لظهور السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية إذ جاء تقرير اللجنة المذكورة مرفقا بمشروع أمر قانوني يقضي بإنشاء السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية كهيأة مستقلة لدى رئيس الجمهورية لتنظيم الصحافة والسمعيات البصرية. وهو ماتم بالفعل من خلال القانون 034/2006.
واستكمالا لبناء المؤسسات الديمقراطية، وتقنينا و تعزيزا لحرية التعبيرجاء القانون 045/2010 الصادر بتاريخ 26 يوليو 2010 الذي حرر لأول مرة في تاريخ بلادنا الفضاء السمعي البصري؛ ليمثل مرحلة فاصلة من تاريخ حرية التعبير من خلال وسائل الاتصال السمعي البصري.
و يكتسي هذا القانون أهمية قصوى؛ حيث نصت المادة 3 منه علي أن: الاتصال السمعي البصري حر على امتداد تراب الجمهورية الإسلامية الموريتانية. ومعلنة في نفس الوقت أن
هذا القانون يرمي إلى تحرير قطاع السمعيات البصرية وإلغاء احتكار الدولة والمصادرة الإعلامية وتحويل وسائل إعلام الدولة إلى وسائل إعلام للخدمة العمومية. وجعلت ـ على غير العادة ـ حرية التعبير هي الأصل، إذ نصت الفقرة الأخيرة من نفس المادة على أن كل التباس أو غموض في النص يجب أن يؤول لصالح حرية التعبير.
وفي أول تجربة لتطبيق هذا القانون تم الترخيص لخمس قنوات تلفزيونية خصوصية تجارية، وخمس إذاعات خصوصية تجارية، وشكلت نقلة نوعية في تعدد العرض السمعي البصري الوطني، وعززت الحق في الاتصال وولوج المعلومات وتزويد المواطنين، بمختلف الآراء والسماح لمختلف الطيف السياسي بإيصال آرائه للقاعدة الجماهيرية.
كما تحولت مؤسستا الإذاعة والتلفزيون الرسميتان سابقا إلى شركات مساهمة تمتلك الدولة كل أو جل رأسمالها ، وتهدف إلي ضمان توفير خدمة عمومية تمكن المواطن من التمتع بحقه في الإعلام وفي التهذيب وفي التعبير، وتنفيذ سياسة الحكومة في الميدان التلفزيوني و الإذاعي وفي مجال البث والإنتاج والإشهار.
هذا التحول في القطب العمومي شكل إنجازا إعلاميا بالغ الأهمية، سمح باتساع دائرة التواصل والتفاعل السياسي و الاجتماعي المحلي، وأتاح تعميم الإذاعات المحلية على كافة ولايات الوطن وتزويدها بالوسائل اللازمة والكادر البشري ، ضمن مقاربة شاملة ترمي إلى تقريب الخدمة الإذاعية من المواطن ليحصل علي حقه في التزويد بالمعلومة الصحيحة والمفيدة.
و لئن كان من المبكر الحكم على التجربة إلا أنه من الملاحظ أن المحطات الإذاعية استطاعت أن تأخذ حيزا لا بأس به في المشهد الإعلامي على عكس المحطات التلفزيونية التي ما زالت تعترضها بعض الصعوبات المادية خاصة لأسباب موضوعية في الغالب.
إجمالا يمكن القول أن تحرير المجال السمعي البصري شكل مكسبا وطنيا بالغ الأهمية، إلا أن تطبيقه واجه صعوبات جعلت التجربة تعيش مخاطر حقيقية، تنذر بالفشل المبكر لا سمح الله، ومن منطلق الواجب، ومن أجل إنارة أعضاء المجموعة تأتي هذه التوصيات المتعلقة بالشق القانوني والتنظيمي، والتي نحسب التغلب عليها قد يسهم في إعادة تصحيح مسار التجربة:
ـ توقيع دفاتر الشروط والالتزامات من قبل قطاع الاتصال السمعي البصري العمومي تطبيقا للمقتضيات القانونية الصريحة، وخاصة المواد:78، 79،80 من القانون 045/2010 المتعلق بالاتصال السمعي البصري؛
ــ العمل علي إصدار عديد المراسيم المطبقة لهذا القانون؛
ــ مراجعة دفاتر الشروط والالتزامات للمؤسسات السمعية البصرية الخصوصية، علي ضوء التجربة ، أخذا في الحسبان انعدام الإشهار وثقافته أصلا؛
ــ تزامنا مع استحداث المجالس الجهوية المرتقبة، ينبغي إصدار مرسوم لاستكمال تنظيم إجراءات منح رخص للتلفزيونات والإذاعات الجمعوية، والتي من شأنها أن تساهم في التنمية المحلية بشكل مباشر، وتخفف من بعض المسلمات الخاطئة لدي المجتمع، والتي تعتبر دور وسائل الإعلام محصورا في الشأن السياسي؛
ــ العمل علي تطبيق العديد من الأنظمة القانونية لواردة في القانون045/2010، مثل نظام الإذن ونظام التصريح والذي يقضي القانون أن يحصل عليه العديد من ممتهني الإعلام وخاصة معيدي البث ، ومتعهدي النفاذ المشروط، ومعدي البرامج السمعية البصرية، والمنتجين الوطنيين والأجانب ..الخ؛ المواد من 26الي 44؛
ــ الإسراع في اعتماد إستراتيجية وطنية لعملية التحول نحو البث الرقمي الأرضي، والتي ستتيح حلا عمليا لمشكلة البث لدي القنوات التلفزيونية الخصوصية، وتوفر لها بثا جيدا يغطي ربوع الوطن وبتكاليف معقولة؛
ـ تفعيل تطبيق العقوبات في المجال السمعي البصري علما أن القانون 045/2010 أفرد الباب الخامس للأحكام الجزائية المواد من 65 الي77 وتتراوح الغرامات في هذا الباب مابين مليون إلي خمسين مليون مع الحبس في بعض الحالات؛ هذا بالإضافة إلي العقوبات الواردة في القانون 017-2006، حول حرية الصحافة وخاصة المواد:
8، 17،16،15،14،13،10؛
ــ التفكير في مدينة إعلامية متكاملة، تستفيد من خصوصية المنطقة الحرة والتسهيلات المترتبة علي إنشائها هناك؛
ــ إنشاء مؤسسة جديدة تعنى بالمحافظة على الذاكرة السمعية البصرية الوطنية؛
ــ خلق متعهد عمومي يكلف بالإنتاج السمعي البصري لسد النقص الملاحظ في العرض الوطني في هذا المجال؛
ــ إصدار قانون ينظم الصحافة الالكترونية، لسد الفراغ القانوني الحاصل في هذا المجال ، ينظم هذا القطاع، ويسمح بمتابعته؛
ــ تحيين المرسوم المنظم لمنح البطاقة الصحفية، وربط كل الامتيازات المادية وحقوق الولوج حصرا لحاملي البطاقة فقط؛
ــ إصدار قانون ينظم الإشهار ويعطي أهمية خاصة وتمييزا إيجابيا لصالح الاتصال السمعي البصري الخصوصي؛
ــ تحيين قانون الدعم العمومي للصحافة، وتخصيص نسبة محددة للمساهمة في تغطية نفقات البث ــ للإذاعات والتلفزيونات الخصوصية ــ باعتبارها أكبر عبئ مادي تتحمله هذه المؤسسات، كما يمكن أن تخصص نسبة محددة من بنود الإشهار في ميزانيات المؤسسات العمومية لصالح الاتصال السمعي البصري الخصوصي.
وللتوضيح فإن القنوات التلفزيونية والإذاعية الخصوصية التجارية وفقا للقانون 045/2010هي مؤسسات تجارية تخضع لمقتضيات المدونة التجارية بدء من مرحلة إعداد ملف الإجابة حيث يشترط أن تكون شركة مساهمة وفقا للقانون الموريتاني، ولا ينافي ذلك توقيعها لدفتر التزامات مع السلطة العليا ولا عقودها مع شركة البث، وفي الظروف العادية عليها وحدها أن تتحمل كل الأعباء، باعتبارها شركة تجارية صرفة ، لكن حرص فخامة الرئيس علي إنجاح التجربة وعضه بالنواجذ عليها، وتقديمه للتوجيهات المستمرة لمساعدتها وانتهاج أقصي درجات التسامح والتساهل معها ترك انطباعا خاطئ لدي البعض أن هناك حقوقا مالية أو مساعدة ملزمة مترتبة لهذه المؤسسات علي الدولة وهو أمر لا يستند إلي أي أساس قانوني ولا عرفي حسب تجارب العالم في هذا المجال.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأستاذ صالح ولد دهماش