"... في بداية شهر فبراير2011 اتصل بي شاب مصري من ميدان التحرير بالقاهرة، وقال لي: أسعفونا يا مولانا، أكتبوا تكلموا، فقد هجمت علينا فتاوى بعض الشيوخ السلفيين وبعض فقهاء دار الإفتاء، فأحدثت بلبلة في صفوفنا،
بما تنادي به من تحريم للمظاهرات والاعتصامات، وتحريم للخروج على النظام، ووجوب طاعة ولي الأمر، ووو... فعكفت في تلك الليلة على كتابة مقال – أو فتوى بعنوان: "وجوب عزل الرئيس المصري ومحاكمته"، ولم أنم، ولم أسترح، حتى أنهيته وأرسلته." )فقه الثورة، مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي، دار الكلمة، القاهر 2013، ص: 07(.
ذاك اعتراف الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني، أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة، الذي تلقبه جماعة الإخوان، جماعته، شيخ المقاصد، وتقدمه مرجعية فكرية تؤصل آراءها، وتشيد لها "فقها سياسيا" يتخذ المقاصد مطية لتحقيق مصالح الجماعة. فقد اتصل به مجهول من مكان مشبوه، مستصرخا.."أسعفونا يا مولانا، أكتبوا، تكلموا،..." لا يطلب المتصل من أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة تبيان الحق في نازلة، ولا حكاية حكم شرعي وإنما يستنصره في خصومة صدرت فيها فتاوى لا تخدم قضيته، ويريد من الأستاذ الدكتور معارضتها بفتاوى لصالح شباب ميدان التحرير. يحرض المتصل شيخ المقاصد بقوله.."أكتبوا تكلموا..." وينصاع الشيخ ليواجه " فتاوى بعض الشيوخ السلفيين وبعض فقهاء دار الافتاء..." التي هجمت على شباب التحرير فأحدثت بلبلة في صفوفهم... يريد الغوي المبين... من وارث النبي أن يحل له المظاهرات والاعتصامات، ويبيح له الخروج على النظام، وعدم طاعة ولي الأمر. فيعكف الريسوني من فوره على كتابة مقال فتوى!!! "ولم أنم ولم أسترح حتى أنهيته وأرسلته."
مما يميز عالَمنا اليوم سرعة الإنجاز، إذ يستطيع أحدنا قضاء أوطاره بمكالمة واحدة. لكن لسرعة الانجاز مساوئها، فمنتجاتها عادة لا تعمر طويلا، لكنها تستهلك على نطاق واسع، ويعمد منتجوها إلى المزايدة على طلبات الزبون الأصلية... فقد طلب المتصل المجهول من شيخ المقاصد التصدي لفتاوى تحريم الخروج على الحاكم، فأوجب عزله ومحاكمته!!! "منتجاتنا المقاصدية دائما أكثر مما تتوقع." هل تصرف الريسوني بما تمليه عليه ألقابه العلمية، والهالة المعرفية التي تضفيها عليه جماعة الإخوان المسلمين؛ جماعته؟ أم أنه تصرف بصفته مناضلا سياسيا يناصر حزبه، ويدافع عن مواقفه محاولا تبريرها شرعا دون اتخاذ ما يلزم من الاحتياط عند إصدار فتوى شرعية في نازلة صدرت فيها فتاوى لم تكن في صالح موقف الجماعة وكانت لها صدقية معرفية أحدثت بلبلة في صفوف المحتجين، ويريد المتصل المجهول فتوى مغايرة تعيد للجماعة لحمتها...
تظهر المقالة- الفتوى أن الريسوني مناضل سياسي، فقد أرسل إلى فتى الميدان منشورا فيه سياسة بلا فقه، ويتوخى مقاصد لا تستند إلى نصوص. فقد عدد الريسوني ما يراه موجبا لعزل مبارك ومحاكمته، وعلى رأسه تزوير الانتخابات... وقد عاصر الريسوني تزوير الانتخابات في بلاده، ولم يرفع عقيرته بوجوب عزل إدريس البصري، فمن دونه في الرتبة!!!
أما دليله الثاني على وجوب عزل مبارك ومحاكمته فهو أنه "يتحكم في رقاب ما يقرب من مائة مليون مصري، ويقهرهم ويذلهم..." وقد عاش الريسوني قرير العين في "سنوات الجمر"، وسمع في المقاهي من يهمسون بفظائع تازممارت، ثم تابع تفاصيلها على قناة الجزيرة؛ قناة الجماعة، ولم يطالب بفتح تحقيق...
الدليل الثالث في عمدة أحكام الريسوني بوجوب عزل مبارك ومحاكمته هو أنه " يتزعم حزبا يتشكل في غالبه ورؤوسه من المترفين والفاسدين المفسدين، الذين نهبوا خيرات البلاد..." لا بد أن الريسوني استمتع بقراءة كتاب "صديقنا الملك" الذي "... يكشف عن الناحية الخفية لملكية دامية، تختلط فيها الحداثة بالبربرية. أسطورة سلطة وابتذالاتها... حيث ضياع الرجال يقترن بآلام شعب." ولم نسمع أنه اشمأز من تقبيل يد، أو انتصب قائما في حضرة "سيدنا"!!!
كانت المقالة الفتوى بمثابة إعلان عن فتح "دار إفتاء ثورية" توصل الطلبات، ولو آخر الليل... وما لبثت الدار أن وسعت نشاطها الإعلاني، فكسبت المزيد من الزبائن.. يقول شيخ المقاصد، صاحب الدار.."وكذلك حينما تحدثت في برنامج"الشريعة والحياة"- على قناة الجزيرة- عن مسائل وأحكام شرعية تخص فقه الثورة، اتصل بي الكثيرون من شتى الدول العربية، ومنهم بعض الإخوة السوريين، وقالوا: لقد رفعت عنا الحرج وأزحت من طريقنا عددا من الإشكالات. ثم عرضوا علي شبهات أخرى تثار في طريقهم هنا وهناك، فكتبت عنها وتكلمت فيها بما تيسر."
احتفى الثوار بشيخ المقاصد مثلما احتفى نعيم وأصحابه بممدوح، في فلم "زوج تحت الطلب"، فقد رفع عنهم الحرج، وتلك هي وظيفة المحلل. فلنلاحظ أن أحدا من الذين استفتوا شيخ المقاصد، حسب روايته، لم يحمد له تبيان حق، لهم أو عليهم، وإنما شكروا له خدماته، وطلبوا المزيد منها... يقول:"ثم عرضوا علي شبهات أخرى تثار في طريقهم هنا وهناك، فكتبت عنها وتكلمت فيها بما تيسر." عادة ما تتساهل الدار في مراقبة جودة منتوجها حين تنعدم المنافسة، أو يصبح الزبون "مدمنا" على استهلاك منتوجها، لذلك أصبح شيخ المقاصد "يكتب ويتكلم بما تيسر"!!! فأين البحث العلمي الجاد، وتحرير المسائل المشروط في من يوقع عن الله، وتجري على لسانه، ويكتب قلمه هذا حلال، وهذا حرام اعتمادا على ما تيسر!!! وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم...
يعترف الريسوني أن تجارته راجت، فزاد الطلب عليه، فكثف نشاطه لإرضاء كل الأهواء والأذواق الثورية. يقول:"... لم أكن أعتذر عن طلب حوار، أو كتابة مقال أو عقد لقاء، إلا لأسباب قاهرة عابرة لا أجد معها حيلة."ص:07-08. كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدافعون الفتوى، احتياطا، حتى تعود للأول. وكان ابن الخطاب يردد، من باب التحذير.."أجرؤكم على الفتيا أسرعكم إلى النار." وكما هو متوقع من مشروع ناجح أصبح له زبناء في منطقة جغرافية واسعة، نوعت "دار الريسوني للإفتاء" نشاطها لتزيد حصتها في سوق الفتوى التي توسعت واحتدت فيها المنافسة أيام "الربيع الدامي"، فاستثمرت الدار في تأليف الكتب تحت الطلب.. يقول صاحب الدار:"... وحين اتصل بي الإخوة الكرام من مركز "نماء للبحوث والدراسات" وطلبوا مني أن أكتب وأجيب عن بعض "أسئلة الثورة وما بعد الثورة" لم يسعني إلا أن أقبل وأتعهد بما طلب مني،..." وبذلك نصب "شيخ المقاصد" نفسه متعهد فتاوى تحت الطلب!!! ومن المفارقة أن مروجي "الفقه السياسي" دأبوا على وصم من يسمونهم "فقهاء السلطان" بصفة منتجي فتاوى تحت الطلب! لكن المقارنة بين دوافع صاحب الأحكام السلطانية، ومقاصد منتج "فقه الثورة"، تظهر أن الأول رام سد فراغ، وتنظيم القول في مجال، بينما قصد الثاني "رفع الحرج" عن جماعته، وإزاحة الإشكالات الشرعية من طريق "ثورته".. يقول
الماوردي.." ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشغالهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه، توخيا للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحريا للنصفة في أخذه وعطائه، وأنا أسأل الله تعالى حسن معونته، وأرغب إليه في توفيقه وهدايته، وهو حسبي وكفى. )مقدمة الأحكام السلطانية للماوردي(. فأين هذا من مقدمة "فقه الثورة"!!! ألا لله الدين الخالص...
سيدي محمد ولد بوجرانه