راج مصطلح "الخطاب" في الكتابات العربية المعاصرة ترجمة لمصطلح Discours مع الشحنة الدلالية المستمدة من اللسانيات. وظهرت دراسات نقدية للخطاب العلمي والسياسي والديني في الفكر الغربي. ولما كان مصطلح "النقد" حاملا لشحنة معيارية،
وارتبط "نقد الخطاب الديني" بمؤلفات ومؤلفين أثاروا لغطا كبيرا، مال بعض الكتاب إلى استعمال مصطلح "تجديد الخطاب الديني"، وإن كان المضمون، والأدوات المعرفية في النهاية واحدة.
تعتمد النتائج التي يتوصل لها الباحث في "تجديد الخطاب الديني" على التعريف الذي يختاره لمفهوم "الخطاب الديني". سنختار هنا تعريفا إجرائيا للشيخ الدكتور سلمان العودة. يعود هذا الاختيار إلى تطابق المرجعية الفكرية والتنظيمية للشيخ الدكتور مع "الخطاب الديني" الرائج في العالم الإسلامي الذي تعود مرجعيته الفكرية إلى السلفية، ويتولى الإخوان توظيفه الحركي.. يقول العودة.." أقصد بالخطاب الديني ما يطرحه العلماء والدعاة والمنتمون إلى المؤسسات الإسلامية في بيان الإسلام والشريعة، سواء كان ذلك من خلال الخطب، أوالمحاضرات، أو التأليف، أو البرامج الإعلامية الأخرى..." موقع الإسلام اليوم.
يفرق العودة بين الخطاب الديني والوحي المنزل. وهي تفرقة لا يقرها باحثو العلوم الإنسانية المستمسكين بمرجعيتها وآلياتها. يقول العودة.."هناك فرق بين الخطاب الديني والوحي المنزل؛ بمعنى أن الخطاب الديني يعتمد على الوحي في كثير من الحالات، لكنه يبقى في حدود العمل العقلي البشري، أو العمل الاجتهادي..." هذه هي الصيغة الخجول التي يتبناها دعاة "التجديد" بدل "النقد"، لكن "التجديديين" ينتهون "نقادا" عبر الصيغة التي يقترحونها لاستثمار النص... ذلك أن كل عملية استثمار تخضع لمتغيرات كثيرة منها:
- خيارات المستثمر
- قوانين الاستثمار
- تقلبات السوق
يتوق كل مستثمر إلى تغيير قوانين الاستثمار لأنها الأسهل من بين المتغيرات الثلاثة؛ فخيارات المستثمر محدودة، ويصعب التنبؤ بتغيرات السوق. حدد القدماء صفات المستثمر، وشروط استثمار النص بشكل دقيق.
فاشترطوا في المستثمر ضمانات كثيرة، ينبغي أن تتوفر في المجتهد الذي يرغب في استثمار النص. كما حددوا قوانين استثمار صارمة تثبت الحدود الواضحة بين:
- رأس المال الثابت؛ القرآن.
- رأس المال المنقول؛ السنة.
- القطاع غير المصنف؛ القياس.
واعتمد اقتصاد القدماء الرمزي على الريع: فكانت الثقافة العربية الإسلامية مصدر دخلهم الفكري الوحيد، في ظل سيادة إقطاعيات مستقرة ومتعايشة؛ المذاهب الفقهية.
أما اليوم فقد تغير كل شيء في بنية الاقتصاد الرمزي، فانتقل من الاعتماد على مصدر معرفي وحيد، ليصبح اقتصادا مختلطا بفعل عولمة الثقافة وتعدد مصادر المعرفة، تنهض فيه المضاربات المالية، والصناعات التحويلية بدور متعاظم. كل هذه التغيرات أدت إلى ازدهار القطاع غير المصنف؛ القياس، ليزيح المضارب؛ المفكر الإسلامي، المستثمر التقليدي؛ الفقيه، من واجهة الفعل الاقتصادي المؤثر في السوق. فالمضارب صاحب مصرف يمتلك سيولة تسمح له بالتحكم في السوق. وهذا ما يمارسه المفكر الإسلامي الذي يمتلك "سيولة التأليف" التي يضارب بها في السوق الرمزية للفكر، ويمول بها "إنتاج المعنى". ومثل صاحب المصرف تماما يميل المفكر الإسلامي إلى الإفراط في استخدام "سيولة التأليف" مما يؤدي إلى تضخم معرفي ينتج عنه كساد في "المعنى" الذي أنتج بوفرة ليعلن المستثمر التقليدي؛ الفقيه، إفلاسه، ويظهر مستثمرون جدد في القطاعات الخدمية التي لا تنتج الثروة، وإنما تتيح للمضاربين تحقيق أرباح سريعة.
هؤلاء المضاربين هم الذين عددهم العودة في تعريفه للخطاب الديني.."... الدعاة، والمنتمون إلى المؤسسات الإسلامية..." وهؤلاء يعرضون خدمات "من خلال الخطب، أو المحاضرات، أو التأليف، أو البرامج الإعلامية الأخرى..." وبذلك يغيب الاقتصاد الحقيقي القائم على إنتاج الثروة ليحل محله الاقتصاد الطفيلي في القطاع غير المصنف. فالدعاة، والمنتمون إلى المؤسسات الإسلامية الخيرية والسياسية يتقاضون أجورا عالية لقاء خدمات الخطب، والمحاضرات، والتأليف، والبرامج الإعلامية. وبذلك يتم نهب "الاقتصاد الرمزي للدين" عبر "الخطاب الديني" الذي ينهض بدور المستثمر الأجنبي الذي يعزف عن توظيف أمواله في "قطاعات إنتاج المعرفة" ليضارب في القطاعات الخدمية التي تقدم "معنى ناجزا" يقدم في محلات الوجبات المعرفية السريعة.."الخطب، والمحاضرات، والبرامج الإعلامية..."
إذا كان الدين يمثل "ثروة الأمم" فإن "الخطاب الديني" يمثل "رأس المال" الذي يعد العمل المصدر الوحيد لإنتاج الثروة. من هنا كان "الإسلام الحركي"، أو "الإسلام السياسي" بيانا "لبروليتاريا معرفية" تختزل علاقات إنتاج المعنى في ترتيب الحروف في التفكير والتكفير، في استعادة لسجال "تهافت الفلاسفة" و"تهافت التهافت" عبر قنطرة "خطاب حداثي" يستثمر في "فلسفة البؤس" ويضارب في "بؤس الفلسفة"...
يقوم الدين على الإيمان والطاعة، بينما يختزل "الخطاب الديني" "الدين في حدود العقل" حسب تعبير كانط. لذلك تراجع الدين لصالح "الخطاب الديني" الذي يرضي غرور الإنسان. فالدين مركزه الله جل جلاله.. "ألا لله الدين الخالص"، وقوامه الإيمان.. "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، وسيلته العبادة.." قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، الإنسان فيه عبد لله، عبودية تحرره مما سوى الله.." وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا".
أما الخطاب الديني فمركزه العقل، ووسيلته الجدل، والإنسان فيه حر اتجاه الله، عبد لما سواه... الخطاب الديني، بهذا المعنى شركة عابرة "للحدود الشرعية"، تستثمر في كافة المجالات، وخاصة في الصناعات التحويلية لمضاعفة الأرباح؛ فتحول الربا فائدة، والفقه في الدين فقها سياسيا، والفتنة جهادا، والمرأة رجلا... وتجديد الخطاب الديني، بهذا المعنى، هو تجديد لخطوط الإنتاج، والتصاميم إرضاء لأذواق الزبائن، ومواجهة للمنافسة الشرسة... والخط الإنتاجي الجديد هذه الأيام هو خط "المقاصد" الذي ينتج أجيالا متعاقبة من "الوسطية"...
من محاضرة ألقيت في ندوة لمنتدى بيت الحكمة.