لقطة تذكارية للمشاركين في رحلة باب للرحلات الثقافية إلى القاهرة مع الناقد المحفوظي الهوى إيهاب الملاح أمام مركز زوار المعز في القاهرة القديمة
عبد الوهاب الحمادي
نجيب محفوظ اسم بات رمزا مصريا عربيا عالميا متعدد المعاني.
سيرته الطويلة التي بدأت بولادته عام ١٩١١ حتى وفاته عام ٢٠٠٦ كانت حافلة وثرية ولا تعكس شيئا مما يعكسه وجهه الهادئ المتأمل.
ذلك الرجل الذي كتبت عنه مذكرات وسير عدة، عرفه العالم عندما فاز بنوبل عام ١٩٨٨ لكن العرب عرفوه قبلها، عبر رواياته ثم عبر الأفلام والمسلسلات التي اقتبست عنها.
«العجوزة»
بدأت الرحلة وأجواء القاهرة الصباحية لا يشك أحد بروعتها، تيار هواء بارد منعش وشمس ساطعة لا تختبئ طويلا خلف غيوم تمر على عجل. محطتنا الأولى شقته في العجوزة. عند وصولنا كانت البناية صامتة، وتكاد تكون شقة مهجورة. لطالما تمنيت أن تحول إلى متحف لن يعدم زائرين من جميع العالم.
أشار لنا أ.إيهاب الملاح للموضع التقريبي حيث كانت السيارة التي يستقلها الروائي الكبير مركونة، عندما امتدت يد تمسك خنجرا نحو عنقه وانبثقت الدماء. ثم أشار للمستشفى الذي أسعفه وتوحد محبيه حول العالم على نبضة واحدة متحدة مع نبضاته الواهنة. ومنها انطلقنا محاذين كورنيش النيل على خطى ذلك الأديب التي تم توثيقها بالتصوير. توقفنا قليلا أسفل جسر أكتوبر الذي صنعت أسفل منه جدارية تخلد ذكرى حصول نجيب محفوظ على نوبل.
صرنا نبصر الأشياء التي كان يبصرها يوميا، النيل الذي تمنى طوال حياته أن يعيش قربه وألا يبعده عنه إلا الموت، بل أنه لم يغادر مصر في حياته المديدة التي ناهزت قرنا عدا مرتين فقط ولمدة قصيرة جدا. ثم عبرنا كوبري الجلاء نحو الجزيرة محاذين دار الأوبرا المصرية وصولا إلى كوبري قصر النيل حيث تربض الأسود على مدخله. ومنه إلى ميدان التحرير الذي اجتزناه نحو ميدان طلعت حرب حيث يقبع مقهى ريش المعروف باحتضانه للمثقفين.
مقهى «ريش»
المشاركون في الجولة خلال تواجدهم في مقهى ريش التاريخي
استقبلتنا مدام ميشيل في ذلك المقهى الذي كان للتو قد فتح بابه. كان فارغا ولم يكن، فالتاريخ الجالس على مقاعده الخشبية الداكنة والمسكون في إطارات الصور المعلقة وحيثما وجهنا البصر ثابت وواضح. تحلقنا حول أ.الملاح الذي تحدث عن مراحل كتابة نجيب محفوظ الروائية. بدأ بالمرحلة الفرعونية وضرب لها مثالا برواية رادوبيس.
كانت صورة نجيب وهو جالس يقرأ الصحيفة بانهماك في مقهى ريش معلقة فوق رؤوسنا. بعد قليل جاءتنا مدام ميشيل تستفسر عن سر انشغالنا بالأديب الراحل وما إن علمت بأن المجموعة متعددة البلدان جمعها في القاهرة حب محفوظ حتى اتسعت عيناها وفرحت. واندهشت عندما علمت بأننا قادمون من شقته بالعجوزة مشيا على الأقدام.
انزوت في الداخل وعادت ثانية: تعرفون تاريخ المقهى؟ كانت تشير لثورة ١٩١٩ والمنشورات التي طبعها الثوار في سرداب أسفل المقهى له باب سري. استطردت: بودي أن أجعلكم ترون هذا السرداب والباب السري كتحية مني لكم جزاء محبتكم لهذا الرمز المصري الكبير. نزلنا الدرج إلى الأسفل وشعور الغموض يصحبنا.
سرداب ضيق وفي آخره جدار وأرفف خشبية، عندما ندفعها، تفتح على ممر سري يؤدي إلى سلم خلفي كان يستخدمه الثوار في الفرار من قوات الاحتلال آنذاك. في صندوق زجاجي وجدنا ماكينة طبع المنشورات لاتزال موجودة. اختتمنا الجولة النهارية في مكتبة دار الشروق التي تمتلك حقوق طباعة ونشر روايات نجيب محفوظ لنقتني كتاباته. كان نهارا محفوظيا مركزا.
«الحسين»
محمود عبدالشكور
في اليوم الثاني بدأت الرحلة صباح الجمعة، الشوارع غير متخمة بالمركبات، وصلنا منطقة الحسين.
للقاهرة القديمة وهج خاص ومتعدد المعاني، سلكنا طريق المعنى الذي نريده، قاهرة نجيب محفوظ.
المقاهي تنادي على الزبائن والمحلات مزدانة بالبضائع السياحية والتقليدية وأصحاب المهن يعملون، كل منكب على أمر ما في يده وآخرون يحتسون الشاي يتفرجون.
«أرض الثلاثية»
من سوق الصاغة دخلنا على شارع المعز حيث أشهر الآثار المملوكية والفاطمية، تلك المباني والأسبلة والتكايا والمساجد وغيرها مما أثثت ذاكرة نجيب محفوظ فأثث بها أركان رواياته وأشهرها الثلاثية. تعتبر الثلاثية أشهر أعمال الأديب وأكثر عمل أنهكه في الكتابة إذ استغرق منه أربعة أعوام، لكل شخصية دفتر خاص بها. من هذا العمل صار اسم أحمد عبد الجواد أو سي السيد مرادفا للرجل والزوج المتسلط ذلك الذي يعيش عالمين، براني وجواني.
إيهاب الملاح
وصلنا إلى سبيل عبدالرحمن كتخدا أو سبيل بين القصرين، التي أخذت أولى أجزاء الثلاثية اسمها منها. من هنا كان منزل أحمد عبد الجواد والمشربية التي كانت ابنته أمينة تطل منها. توقفنا مليا فلكل ذكرياته مع هذا العمل الذي وجد مكانا لا يتزحزح في الذاكرة العربية عبر القراءة أولا ثم السينما والتلفزيون.
أحاطت بنا المشربيات الخشبية ولا ندري من أيها ستطل ابنة ذلك الرجل المتشدد لتلوح لنا. ثم أكملنا عبر سوق النحاسين وصولا إلى جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي ومنه إلى باب الفتوح. لم لا أذكر أن أعيننا شبعت مما نراه.
فللرؤية هنا عدة مستويات شأنها شأن أغلب رحلتنا. فهذه آثار إسلامية، تلاحقت عليها القرون، ومرت عبرها أحداث مهمة في التاريخ.
وهي الطرقات التي عرفها نجيب صغيرا مع والدته التي كانت تصحبه، وهي الأمية، لجميع هذه المآثر وتجلسه ليراها فتشبع منها.
خرجنا من باب أبي الفتوح وهو من أبواب سور القاهرة القديمة التي بناها الفاطمي جوهر الصقلي.
وعدنا لندخلها من باب النصر ونسلك الطريق الموازي لطريقنا الأول، وقفنا عند قصر الشوق وهو الدرب الذي استل منه نجيب محفوظ اسم الجزء الثاني من ثلاثيته ثم السكرية وهي الجزء الثالث منها. ومن اسم لاسم تبدى لنا أكثر عالم نجيب محفوظ الروائي والأماكن التي أثث بها كتاباته. ثم عدنا إلى حارة بيت القاضي، الموضع الذي ولد فيه أديب نوبل، لا أثر يدل على شيء من ذلك المجد الروائي.
لكن في أذهاننا نستعيد ولادته وسبب تسميته بنجيب محفوظ، هنالك قول مشهور وهو أنه سمي على اسم طبيب الولادة المعروف وهو الدكتور نجيب محفوظ، لكن نجيب في لقاء تلفزيوني يذكر سببا آخر وهو أنه هنالك لصا شهيرا في ذلك الزمن عرف في القاهرة اسمه محفوظ نجيب، وعندما ذهب والده لتسميته أراد تسميته على اسم اللص لكن لبسا حصل فعكس والده الاسم، وثبت نجيب محفوظ في السجلات، ثم قهقه في اللقاء بطريقته الشهيرة.
نجيب محفوظ خلد القاهرة في أعماله
من درب القاضي عدنا إلى خان الخليلي، وهنا اسم رواية أخرى لصاحب نوبل، ومنها لمقهى الفيشاوي الذي يقول البعض إنه أقدم مقاهي القاهرة، وارتاده نجيب لردح من الزمن. جلسنا في ركن مميز في المقهى العامر بالزبائن.
وجاءنا صاحب المقهى وهو حفيد المؤسس ورحب وعندما علم بسبب قدومنا قص علينا بعضا من مشاهداته لنجيب وهو يقدم إليه القهوة ووصف مجيئه بالمتخفي، إذ كان يحرص على ألا يراه أحد لكي يحفظ وقته، يطلب الشيشة ويندغم في قراءة الصحف ثم يغادر.
من الفيشاوي عدنا للنيل والقاهرة لنودعهما.
باب قاهرة نجيب محفوظ فتح على عالم ثري، اقتربنا من سيرة ذلك الروائي الذي ما يزال حيا في أذهان الجميع رغم رحيله. أعماله تمشي في شوارع القاهرة، وشخصياته مضرب المثل. عشنا في أيام معدودة حياة استعدنا فيها سيرته المكانية، مع مجموعة كانت متحفزة واجتمعت على حب ذلك العملاق. الذي بات رمزا في الرواية، رمزا في مقاومة التخلف والتزمت، ورمزا في مقاومة الجهل.
لكن من يتذكر سيرة نجيب محفوظ يتوقف عند المقاطعة العربية التي تعرض لها إبان أزمة رواية أولاد حارتنا، وجعلت التيار الديني ضده بزعم ازدراء الأنبياء والأديان رغم أن محاولاته لنقاش من قاد هذا الزعم لم تؤت أكلها.
ويتوقف مرة أخرى عند رأيه بالصلح مع إسرائيل الذي رآه موقفا متخاذلا. كل ذلك توج بمحاولة الاغتيال التي تعرض لها عام ١٩٩٤ عندما أقدم شاب على غرز سكين في عنقه الثمانيني.
ولولا عناية الله ثم المستشفى الذي كان على بعد خطوات من محل الاغتيال، لكانت نقطة النهاية لمسيرة اختصرناها اختصارا مخلا، لرجل وضع الحياة المصرية وحاراتها وناسها وعوالمها على الورق، وقدمها إلى العالم بقدرة روائية فنية عالية لاتزال تكتشف من القراء والمخرجين وكتاب الأفلام والمسلسلات.
كل هذه المقدمة ذات التقصير المخل هي مدخل لسيرة ذلك الرجل الذي أغرمت برواياته، كنت أحبها فيما مضى لكن مع تعدد القراءات وتنوعها بت أدرك قيمته الإنسانية قبل كل شيء. من هنا جاءت فكرة السير على الطرقات التي ولد فيها وترعرع ثم انعكست مكانا وزمانا وشخصيات في أعماله.
من يقرأ عن نجيب محفوظ سيعلم أمرين لا محالة، ولادته وحياته في القاهرة القديمة في حي الجمالية الملاصق للحسين والمتاخم لشارع المعز الذي يعتبره البعض أكبر متاحف العالم المفتوحة. وكل تلك الأمكنة التي يتكدس فيها التاريخ تكدسا حتى يصعب الالمام به.
الأمر الثاني هو انضباطه الشديد وبرنامجه اليومي والأسبوعي الصارم الذي مكنه من إيجاد وقت ليكتب كل تلك الأعمال منذ نهاية الثلاثينيات وحتى تسعينيات القرن المنصرم.
وفقا لهذين الأمرين هذا جاءت الفكرة التي اشتغلنا عليها في مشروع باب للرحلات تحت اسم قاهرة نجيب محفوظ. وبدأنا بتخطيط برنامج يحاذيهما، حياته والأحياء التي عاشها وعاشته. ومسيره اليومي من شقته في منطقة العجوزة حتى صحيفة الأهرام مرورا بالمقاهي التي عرفته. ولن تكتمل الفكرة إلا بالتعاون والاستفادة من نقاد لهم باع في قراءة أعماله، لذلك تيسرت السبل للالتقاء بالناقدين المعروفين أ.إيهاب الملاح وأ.محمود عبدالشكور محفوظيي الهوى.
ثم اجتمع في الرحلة نخبة مشاركين من مستويات عدة تجمعهم ثقافة عالية وعشق لنجيب محفوظ.