شهدت الساحة في الآونة الأخيرة، نشر مقالات تشهيرية صادمة تستهدف موريتانيا على صفحات بعض الجرائد في مالي الشقيقة. فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الحملة لتشويه بلادنا ولمصلحة من يقام بها؟
إذا اقتصرنا فقط على المقالين الأخيرين في هذه السلسلة سيئة الصيت، وهما مقال “ما المسكوت عنه بالنسبة لمجموعة دول الساحل الخمس بخصوص موريتانيا ؟” الذي نشرته صحيفة “رسالة الشعب” ووضعته بوابة”Malijet” في موقعها على شبكة الإنترنت، بتاريخ 9 فبراير 2017 ومقال “أزمة الشمال: موريتانيا والدعم السري للمتمردين في أزواد”، وهو- رغم كونه مقالا قديما سبق أن نشرته صحيفة “الفجر” المالية في عددها رقم 402 بتاريخ 6 فبراير 2012- فقد أصرت بوابة “Malijet” على إعادة نشره في نفس التاريخ مع المقال السابق، حيث حاول هاذان المقالان، في تناغم مقصود، إحداث فرقعة بين عناوين الصحف الصادرة هذا الأسبوع ضمن حملة مفتعلة لتشويه موريتانيا والنيل من سمعتها، خاصة أنهما موجهان أساسا للرأي العام في مالي الشقيقة، ضمن مرحلة لها خصوصيتها في جارتنا الجنوبية.
على أية حال، ومهما تكن الدوافع التي حركت من كتب المقالين وكذا المواقع التي روجت لهما، ضمن خارطة الصراعات السياسية والانقسامات الحزبية الداخلية في مالي، فإن من واجب الرأي العام، في كل من مالي وموريتانيا أن يطلع على دحض الإدعاءات الكاذبة والافتراءات وعكس الحقائق، التي تعج بها هذه المقالات، والتي تهدف إلى الإضرار -على حد سواء- بكل من موريتانيا و مالي الشقيق، من أجل أن لا ينخدع بها، وينأى بنفسه عنها بشكل واضح لا لبس فيه.
لماذا إذن، يريد البعض تلمحا أو تصريحا أن يصف موريتانيا والرئيس عزيز بأنهما غير صادقين في تعاملهما مع مالي ولا يريدان الخير له ولشعبه؟ هل كان الهدف من المقالين هو محاولة التأثير على مجريات القمة الاستثنائية لدول الساحل الخمس، التي عقدت في باماكو بتاريخ 6 فبراير 2017 ؟ أم أن القصد منها هو التشكيك في الاجتماع رفيع المستوى لوزراء خارجية دول الوساطة، الذي عقد في باماكو بتاريخ 10 فبراير 2017، وكان الهدف منه هو إعطاء دفع جديد لتنفيذ اتفاق السلام والمصالحة في شمال مالي؟ حيث ظلت موريتانيا -منذ بداية- عضوا مؤسسا وفاعلا نشطا في عملية التفاوض من أجل السلام ضمن مسار الجزائر؟
لعل أقل الناس دراية وأكثرهم انقطاعا عن واقع شبه المنطقة، لا يمكنه أن يفهم أو أن يتقبل بأن تكون موريتانيا، وكذلك، مثلها كل دول الجوار المالي، غير صادقة، أو غير جادة في سبيل مساعدة مالي الشقيقة من أجل استعادة السلام والمصالحة والاستقرار على عموم ترابها الوطني، وخاصة في المناطق الشمالية من مالي.
ألم تساعد موريتانيا دولة مالي الشقيقة منذ سنة 2010، حين كانت تمر في وضعية صعبة، بل وتدخلت موريتانيا عسكريا، حتى داخل الأراضي المالية، لمطاردة وتحييد الإرهابيين وشبكات الجريمة المنظمة؟ ألم تساعد موريتانيا سنة 2014، الشقيقة مالي، التي كانت تواجه آنذاك، بالإضافة إلى التحدي الإرهابي، حالة انقلاب وتمرد انفصالي في الشمال خلال الاشتباكات العنيفة بين الحركات الأزوادية المسلحة والجيش المالي؟ والتي تحولت إلى كارثة عسكرية وبشرية وسياسة أثرت كثيرا على الدولة المالية وكادت أن تعصف بها؛ في تلك اللحظة التاريخية، هل حاولت موريتانيا الاستفادة من ذلك الوضع في علاقاتها مع الدولة المالية؟ كلا..
بل على العكس من ذلك، ألم يستجمع الرئيس عزيز كامل شجاعته ليذهب من أجل إنقاذ أخيه الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، حرصا منه على سلامة دولة مالي ووحدتها الترابية؟ ألم يعرض الرئيس عزيز نفسه للمخاطرة من دون أي ضمانات أمنية دولية، وذهب بطائرة هليكوبتر فوق خطوط النار، ليفاوض نيابة عن الدولة المالية وبتفويض من رئيسها، حيث استطاع الحصول على اتفاق لوقف إطلاق النار والتوقيع عليه في كيدال بتاريخ 23 مايو 2014، وهو الاتفاق الذي سيتم استخدامه فورا لوقف الاندفاع الكاسح من طرف الحركات المسلحة الأزوادية نحو العاصمة باماكو؟ ثم سيتم استخدامه في وقت لاحق، في يوليو 2014، ليكون الأساس الذي ستبنى عليه عملية التفاوض من أجل السلام برمتها في مسار الجزائر، وفيما بعد، أقيم على أساسه الاتفاق من أجل السلام والمصالحة الذي تم التوقيع عليه بين حكومة مالي والحركات المسلحة، من خلال جهود الوساطة الدولية، بتاريخ 20 يونيو 2015، حيث كانت موريتانيا -منذ البداية- عضوا مؤسسا وفاعلا نشطا في تلك الجهود.
أعتقد أنه لا جدوى من تشويه الحقيقة ولا الاختباء وراء الأكاذيب والمغالطات.
يجب أن نكون واضحين ونزيهين لكي نكسب المصداقية لدى الرأي العام. لقد كانت الأزمة في شمال مالي دائما مصدر قلق كبير للرئيس عزيز، الذي انخرط شخصيا لخلق وتعزيز الظروف من أجل عودة السلام من خلال حوار شامل بين الإخوة في مالي، كما ظل ملتزما بالحفاظ على سيادة الدولة المالية وسلامة أراضيها وعلى طابعها الجمهوري، داعيا الأطراف في مالي إلى التوصل إلى سلام دائم بينهم لمصلحة بلادهم وشعوبهم.
ثم إن أولئك الذين تفاوض معهم الرئيس عزيز من أجل وقف إطلاق النار يوم 23 مايو 2014، لمصلحة مالي والماليين، لم يكونوا إرهابيين، أولا لأنهم يقدمون أنفسهم كمدافعين عن قضية هوية سياسية واجتماعية وثقافية قديمة بدأت قصتها منذ الخمسينيات، قبل فترة طويلة من ظهور الإرهاب؛ ثم، لأنهم سيوقعون على اتفاق مع حكومة مالي، ولا يعقل بان يتم توقيع اتفاقيات بين إرهابيين ورؤساء دول.
أما بالنسبة لأفراد الشعب المالي، ولا سيما من المناطق الشمالية، الذين لجأوا إلى موريتانيا، بسبب الإرهاب والتعسف، فهؤلاء كذلك لم يكونوا إرهابيين، بل هم لاجئون، بقي أغلبهم في مخيمات اللاجئين في أمبره والمناطق المحيطة بها، حيث يحظون بالمساعدة من طرف السلطات الموريتانية والمنظمات الإنسانية الدولية، أما أولئك الذين هم أحسن حالا، فقد ذهبوا للعيش في نواكشوط أو في أماكن أخرى من موريتانيا. أما بالنسبة لزيارات بعض قيادات الحركات المسلحة الأزوادية إلى موريتانيا، فلا يمكن -بأي حال من الأحوال- أن تكون موضع شبهة، لأنهم ما فتئوا يتجولون باستمرار بين عواصم جميع الدول المجاورة لمالي (بوركينا فاسو، والنيجر والجزائر) بل وخارجها في المغرب وأوروبا.
قصة التواطؤ الافتراضي بين موريتانيا والإرهابيين لم تعد موضة في هذه الأيام.. وبالتالي لم تعد لها أي مردودية على الإطلاق. لقد تم تلفيق تلك القصة الوهمية داخل حوض تفكيري مزيف في الولايات المتحدة، حيث أطلقها أشخاص معتوهون، ثم نقلها موقع الجزيرة نت معتقدا بأنها تمثل سبقا صحفيا، قبل أن ينتبه مؤخرا إلى أنها مجرد سخافة، فقام بحذفها من الموقع والاعتذار عنها لموريتانيا. أما اليوم، فلم يبق من تلك القصة سوى فتات لا يسمن ولا يغني من جوع.
حتى خلال الأسبوع الماضي، عندما جاء الرئيس عزيز إلى باماكو للمشاركة في القمة الاستثنائية لمجوعة دول الساحل الخمس، وقد كان هو نفسه صاحب فكرة إنشائها أصلا من أجل تجسيد مشروعه للعمل المشترك الذي يجمع معا الأمن والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فقد صرح بوضوح وصدق بأن “الإرهاب والجريمة المنظمة هما أكبر التحديات” في المنطقة، مشيرا إلى أن الجزء الأكبر من المعركة في مالي موجه ضد الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، وأنه إذا ما تم رفع تلك التحديات، فإن الإخوة الماليين سيجدون الطرق المناسبة لحل مشاكلهم الداخلية بكل حكمة وتبصر.
لقد جاء الرئيس عزيز ليعلن لإخوانه في مجوعة دول الساحل الخمس، بأن موريتانيا مستعدة لتشاركهم في مواردها الخاصة من أجل مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل وضمان استفادتهم من الميزات التنافسية للبلاد، خاصة مقاربتها في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، ومن خلال تدريب الكوادر العسكرية المتقدمة في الكلية الجديدة، وكذا تنفيذ مشاريع هيكلية عملاقة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية المتكاملة في منطقة الساحل، مثل مشروع صندوق التنمية المستدامة، وشركة النقل الجوي في منطقة الساحل، إضافة إلى مشاريع البنى التحتية الطرقية الضخمة، الخ…
لا شك أنه من المهم أن يفهم مرتكبو هذه المقالات بأن موريتانيا ليست دولة فاشلة وأن الرئيس عزيز ليس رجل الإطفاء الذي يتعمد إشعال الحريق ثم يأتي لإخماده.
بل على العكس من ذلك، تمتلك بلدنا رؤية إستراتيجية واضحة، ويتمتع رئيسنا بإرادة سياسية صلبة، إيجابية وطموحة بالنسبة لموريتانيا وشبه المنطقة، والقارة الأفريقية والعالم العربي.
وتنبع هذه الرؤية أولا من طبيعة إدراكنا للبعد الإنساني لسماحة مبادئ الإسلام، الذي يدعو البشرية جمعاء إلى الأخوة والتعارف والتواصل بين الشعوب والأمم. ثم تنبع هذه الرؤية من خصوصية وتميز موقعنا الجيو-سياسي كحلقة وصل بين العالم العربي وإفريقيا، من أجل تعزيز السلام والتبادل بين هذين المجالين اللذين يمثلان مهد البشرية. كما أنها تنبع من تراثنا الثقافي الغني والتعددي، المبني على الانفتاح، والإثراء الفكري المتبادل وعلى قيم التضامن. وهي فضلا عن ذلك كله، تنطلق من اتساق وحيوية مرجعيتنا الدبلوماسية، التي تقوم على أساس مبادئ الصداقة والسلام والاحترام وحسن الجوار والتعاون بين الدول والشعوب.
إن موريتانيا من هذا العيار هي التي يقودها اليوم الرئيس عزيز بنزعة إرادوية وبحماس منقطع النظير، نحو أهداف نبيلة، إيجابية ومحترمة تروم الخير لهذه البلد وللمنطقة برمتها.
إن وجود فكرة معينة لدينا عن موريتانيا بهذه المواصفات، هو ما يقودنا إلى الاعتقاد بأنها لن تتأثر بما يروجه بعض المرجفين والباعة المتجولين للشائعات المغرضة، ممن فقدوا التوازن والبوصلة أثناء سقوطهم المحموم. إن موريتانيا لن تضعف أمامهم.. ولن تغير من سلوكها المتسم بالأريحية والإخاء مع الجوار.
نادي أصدقاء الدبلوماسية الموريتانية
إبراهيم ولد إبراهيم ولد خيري