«في بيتنا لقيط».. عذابات مجهولي النسب على «قارعة» الحياة

أربعاء, 01/18/2017 - 17:08

ما بين الملاجئ ودور الرعاية الاجتماعية ومنازل متبنيهم، يعيش مجهولو النسب أو«اللقطاء» معاناة كبيرة وعذابات لا تنتهي، تستمد استمراريتها من النظرة الدونية وقسوة المجتمع في واقع مرير، ومستقبل مظلم، يعيشون في صراع أبدي مع النفس، «هل هم جناة أم ضحايا؟».

«لقيط»، ربما تلك الكلمة هي أشد ألوان المآسي التي يتحملها هؤلاء طوال سنواتهم، فبالرغم من منع العديد من المؤسسات الاجتماعية تداول هذا التعبير القاسي واستبداله بكلمات أخف وطأة، الا انه يبقى الانطباع الأول والصورة التي سرعان ما تتبادر الى الذهن حال ذكرهم، فضلا عن ان التعامل مع تلك الفئة منذ نعومة اظافرهم حتى مرحلة الشباب والنضج مهمة صعبة بكل المقاييس، تحتاج الى قدرات من نوع خاص، سواء في دور الطفولة او مؤسسات الشؤون او المدارس ومراكز التدريب والتأهيل.

ليس من السهل، اختزال تلك المعاناة في عمل أدبي يجمع بين البعدين الإنساني والاجتماعي، ولا يخلو من الإسقاطات السياسية، ولكن اذا تصدى لذلك خبير اجتماعي متخصص، وكاتب وأديب في الوقت ذاته، فلا شك ان المنتج سيجمع بين دقة الرصد ومتعة الطرح وجزالة اللفظ، وهذا ما تم بالفعل خلال رواية «في بيتنا لقيط» للكاتب د.فهد الوردان والتي تتناول أحوال «اللقطاء» وتدور أحداثها في الكويت والأردن وسورية، خلال العقد الأخير، تلك الفترة الحافلة بالعديد من المتغيرات والأحداث الكبرى محليا وعربيا ودوليا.

تحكي الرواية قصة شبه واقعية لطفل ألقته والدته بجانب أحد المساجد، وتركته يواجه مصيره في ظروف اجتماعية «قاهرة» وعادات وتقاليد لا ترحم ولا تمنح تلك الشريحة أي اعذار او مبررات، فمن قبيل صلاة الفجر وبدموع الرضيع تبدأ وقائع العمل، وبروح التحدي والعزيمة القوية يتحول الضحية الى بطل في إطار من الأحداث المترابطة ضمن سياق إنساني مؤثر.

ولما كان الزواج من أصعب المشكلات التي تقابل تلك الشريحة وذلك لرفض الطرف الآخر الارتباط بـ «مجهول النسب»، وفي رمزية أدبية للتخفيف من حدة مضمون العمل، استهل المؤلف «في بيتنا لقيط» بمشهد يفيض بالرومانسية، ليسرد قصة حب جميلة بين عيسى «بطل الرواية» وزميلته في الجامعة خولة، تتوج بالتقدم لخطبتها، فترفض اسرتها عندما تعلم انه «لقيط»، وهنا تتولد لدى الطرفين مشاعر هجينة بين التحدي والاستسلام «الرضوخ لآراء الأهل أو رفض معتقدات خاطئة فرضها المجتمع على هؤلاء بلا رحمة»، ثم ينتقل الكاتب الى وصف الحياة اليومية في «دار الطفولة» بالكويت وهي المسؤولة عن رعاية تلك الحالات حيث توفر لهم حياة كريمة وتلبي جميع متطلباتهم، وايضا ترفدهم بكوادر بشرية متخصصة تساعدهم في الانخراط بالحياة بسهولة، مسلطا الضوء على شخصية «مساعد» وهو مدير المؤسسات الاجتماعية الذي تنشأ بينه وبين عيسى علاقة قوية ويساعده في مختلف شؤون حياته حتى نهاية الأحداث، ثم يتنقل بعد ذلك الى قضية التبني وشروطه وأحكامه في البلاد.

ويبدأ الوردان الفصل الثاني من العمل بإتمام عيسى 18 عاما من العمر حيث ينتقل الى منزل متبنيه الجدد عادل ولولوة، مستعرضا ما احيط من رعاية وحنان، متناولا بعض القضايا الجانبية في المجتمع الكويتي مثل أهمية الانتماء إلى العائلة، والألقاب والكنية بالنسبة للفرد، وايضا عالم الكتب والقراءة ووسائل التواصل الحديثة، مبينا ان «كل كتاب هو في الحقيقة جزء من عقل انسان فكر كثيرا ليعطينا النتائج التي توصل اليها»، كما يعرج على دور جمعيات النفع العام ومنظمات المجتمع المدني ومدى نجاحها في تحقيق الأهداف التي انشئت من اجلها.

إسقاطات سياسية

القضايا السياسية في الكويت والعالم العربي، لم تكن بمنأى عن رؤية المؤلف حيث بدأ الفصل الثالث من روايته بمناقشة العديد منها خلال السنوات العشر الأخيرة، مستخدما الكثير من الإسقاطات من خلال الحوارات بين الأشخاص، حيث تطرق الى الحقوق السياسية للمرأة، ومعارضة بعض الأطراف والتيارات في الكويت لها، والحراك المجتمعي النسائي والدعم الحكومي لإقرارها، مستعرضا في هذا الخصوص مقالا صحافيا لعيسى بدأه بعبارة تلخص المشهد «من أغرب ما يمكن ان يحدث في أي بلد هو ان يكون الشعب أكثر تشددا من الحكومة»، ونتيجة لدفاعه عن حقوق المرأة تنهال عليه ردود الأفعال من المؤيدين والمعارضين، ليتواصل مع احدى الداعمات للقضية والتي تتابعه عن كثب وهي في الحقيقة أمه وتتوطد بينهما العلاقة لتكون «أمومة متنكرة في زي صداقة»، ويشعر بعاطفة من نوع اخر نحوها.

وتتوالى الإسقاطات لتتناول احداث الربيع العربي بعد عام 2010 ثم واقعة اقتحام مجلس الأمة في الكويت، ليطالب عيسى بضرورة احترام الديموقراطية والحفاظ على مؤسسات الدولة رافضا تلك «الفوضى القيمية والردة السلوكية لدى البعض في المجتمع»، وصولا الى قضية مقاطعة الانتخابات البرلمانية في 2013.

وفي تحول نوعي لأحداث «في بيتنا لقيط»، وعندما تنتفض عزيمة الإنسان ويشتد إصراره ويصحو ضميره، لا تقف مجهولية النسب حائلا دون تحقيق ما يصبو اليه من أهداف انسانية سامية، وفي مشهد بانورامي مختلف، يأخذنا الكاتب الى هناك، حيث الحرب الدائرة في سورية بمختلف تعقيداتها، ويلتقط صورا قلمية لكثرة الفصائل المتناحرة وطفرة التنظيمات الإرهابية، وضياع المواطن البسيط فيما بينها، ليسرد لنا كيف تمكن «داعش» من اغواء «نايف» زميل عيسى في دار الطفولة للالتحاق بصفوفه وندمه بعد اكتشاف حقيقة التنظيم المارق، ليستنجد بصديقه عيسى الذي يسافر الى سورية عبر الأردن وينجح في تخليص «نايف» من أيدي عصابات «داعش»، كاشفا النقاب عن بعض أسرار وطرق تعامل التنظيم مع ضحاياه والمنضمين اليه، مقارنا بين ما توفر الكويت لأبنائها من دعم ورعاية وغيرها من البلدان، واصفا اياها في احدى العبارات على لسان البطل بـ «بلادنا التي لا تجور علينا».

جولة عربية

استطاع المؤلف بشيء من الفطنة ان يصطحب القارئ في جولة الى العديد من الدول العربية وذلك ضمن سياق الأحداث، ملقيا الضوء على بعض الجوانب الاجتماعية لأهل تلك البلدان، حيث استعرض جوانب من الحياة اليومية في مدن حلب ودرعا وحمص السورية وأماكنها التراثية ومحلاتها العتيقة واكلاتها الشهية وكرم أهلها وترحيبهم بالضيوف، وايضا يصف لنا جمال الاردن وفنادقه وشوارعه ومدنه، وصولا الى الأوضاع المأساوية في العراق والتي افرزها تنظيم «داعش» والصراع المسلح بين الطوائف والمذاهب المختلفة، واثره على المواطن، محاولا سبر أغوار الرغبة المتأصلة لدى بعض العرب في الهجرة من أوطانهم الى الدول الغربية.

عصف ذهني

كما كانت بداية الرواية «عاطفية» لجذب القارئ للاندماج مع الأحداث، جاءت نهايتها «مفتوحة» لتتيح لنا مجالا فسيحا للتفكير في مجريات الوقائع، وتدعنا نتدبر فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور عقب الحبكة السردية المتقنة التي صاغتها أنامل المؤلف، وتجعلنا نعيش حالة «عصف ذهني»، محاصرين بعدة أسئلة حول مآلات اللقطاء، منها: ماذا يجب علينا فعله لإنقاذ تلك الفئة والتخفيف من قسوة المجتمع عليهم؟ ولماذا تلجأ الأمهات إلى تلك الأفعال؟ هل خوفا من الفضيحة؟ ام لعدم القدرة على مواجهة الظروف التي قد تكون اضطرتها لذلك؟ نستطيع القول إن الرواية عمل أدبي متميز، فضلا عن كونها إضافة ثرية للمكتبة العربية، استطاع مؤلفها اقتحام كواليس بعض المناطق والبؤر التي يعتبرها البعض خطا أحمر في المجتمع بحرفية ومهارة عالية، مما يؤهلها لأن تكون مشروع عمل فني هادف.

نسبية الحقيقة

«ماذا نفعل بالحقيقة عندما نمتلكها ونعلمها؟»، حول ذلك المفهوم الفضفاض للحقيقة، خصص الوردان جزءا كبيرا من الفصل لمناقشة كنهها وذلك عبر حوار شيّق بين عيسى وأستاذه المساعد، مؤكدا على ضرورة معرفة ما الذي يجب أن نفعله بالحقيقة عند الوصول إليها، حتى لا تتحول إلى عبء ثقيل على نفوسنا، وإعادة النظر في فكرة الإيمان المطلق بالآراء أو القناعات التي يتبناها الإنسان، وأنها اكبر بكثير من أن نحدها بفكرة أو استنتاج معين، «فالذي يروم امتلاك الحقيقة عليه أن يؤمن بأنها مفهوم نسبي».

المؤلف في سطور

٭ فهد عجمي الوردان

٭ دكتوراه في التربية عام 2005

٭ ماجستير في التربية من الولايات المتحدة عام 1999

٭ بكالوريوس تربية من جامعة الكويت 1985

٭ معيد في جامعة الكويت

٭ رئيس تحرير مجلة إضاءة

٭ مدير إدارة الأنشطة والإعلام

٭ مدير إدارة الحضانة العائلية

٭ مدير إدارة التوعية والإرشاد

٭ كاتب صحافي في جريدة الوطن

٭ الإشراف على طلبة التربية في «التطبيقي»

٭ شارك في العديد من المؤتمرات وورش العمل المحلية والدولية

٭ صدرت له العديد من المؤلفات