استقبلت مدينة طوبى، مائتي كيلومتر شرقي العاصمة السنغالية دكار، خلال الأيام الأخيرة ملايين المسلمين، من أتباع ومريدي الشيخ أحمدو بمب، مؤسس المدينة التي أصبحت "قلب السنغال"، وإحدى المدن الأكثر تأثيراً وقوة في غرب أفريقيا.
أكثر من ثلاثة ملايين يتوجهون كل عام إلى مدينة طوبى، إنه موسم "ماغال طوبى" لإحياء ذكرى عودة الشيخ أحمدو بمب من منفاه الذي أرسله إليه الفرنسيون مطلع القرن الماضي، بعد أن رفض الخضوع لمخططاتهم الاستعمارية في السنغال، والإصرار على تأسيس مدينته التي تقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية وإحياء وتعليم قواعد الإسلام واللغة العربية.
يشكل الثامن عشر من شهر صفر، واحداً من أهم الأعياد الوطنية في السنغال، إذ تتوقف الحياة في المدن الكبيرة وخاصة دكار، ويتوجه أغلب السكان إلى طوبى من أجل الاحتفال بالذكرى التي تحتل مكانة كبيرة في نفوس السنغاليين، كما تستقبل طوبى وفوداً من البلدان المجاورة، وخاصة مالي وموريتانيا.
مسجد طوبى
في موسم "ماغال" تغرق مدينة طوبى في طوفان بشري، ملايين الأتباع يتطلعون للوصول إلى المسجد الكبير وسط المدينة، إنه المسجد الذي أسسه الشيخ أحمدو بمب وقال في شأنه: "لا شيء يهمّني في هذا العالم سوى تشييد هذا المسجد"، عبارة ماتزال عالقة في أذهان الملايين من أتباعه.
ومنذ عام 1932 والعمل متواصل في المسجد، تحت إشراف مباشر من أبناء الشيخ أحمدو بمب وأحفاده، ليصبح اليوم معلمة معمارية يفتخر بها جميع السنغاليين، فيما يعد واحداً من أكبر المساجد في القارة الأفريقية وأكثرها أبهة وجمالاً، حيث يمزج ما بين الطراز المعماري الإسلامي الأندلسي والمغربي، مع لمسة أفريقية لا تخطئها العين.
في باحة المسجد الفسيحة يجلس عشرات آلاف الأتباع، ممن فاتهم الدخول إلى المسجد رغم اتساعه، يستظلون مناراته السبع العملاقة وقبابه المتناثرة، ينتظرون فرصتهم للوصول إلى حيث يرقد مؤسس الطريقة المريدية الشيخ أحمدو بمب، في ضريح مطرز بالآيات القرآنية والأدعية، مع أبيات شعرية بلغة عربية رصينة خلدها "خادم الرسول" في مدح محبوبه صلى الله عليه وسلم.
يتحدث سكان مدينة طوبى باعتزاز وفخر عن مسجدهم، يؤكدون أنهم شيدوه بناء على وصية من مؤسس المدينة، وتأكيداً للمكانة الكبيرة التي يجب أن تحتلها طوبى في قلوب المسلمين في غرب أفريقيا، ولكنهم يفخرون بأن جميع تكاليفه التي تعد بملايين الدولارات خرجت من جيوب أبناء وأحفاد الشيخ أحمدو بمب، والمخلصين من أتباعه والمحبين له في أصقاع العالم.
المسجد الذي يعد واحداً من بين أجمل 25 مسجداً في العالم، يمتد على مساحة 8 آلاف و790 مترا مربعاً، تزيّن إطلالته 7 مآذن أو منارات، 4 منها تبلغ 66 مترا من الارتفاع، واثنتان يناهز ارتفاعهما الـ 60 مترا، في حين تبلغ الأخيرة 86.80 مترا من الارتفاع، بداخله معهد إسلامي تدرس فيه مختلف العلوم بما فيها القرءان الكريم والفقه والسيرة واللغة العربية.
عودة الشيخ أحمدو بمب من المنفى عام 1902
خادم الرسول
يشكل موسم "ماغال" بالنسبة لزوار مدينة طوبى فرصة لاستعادة تفاصيل حياة الشيخ أحمدو بمب، الذي يعد واحداً من الشخصيات الدينية التي تركت بصمتها في السنغال وغرب أفريقيا، بل إن بعض الباحثين يعدونه من أكثر الشخصيات الأفريقية تأثيراً في القرن العشرين.
الشيخ أحمدو بمب مبكي (1850-1927)، ظهر في فترة كان الاستعمار الفرنسي يوسع من نفوذه السياسي والاقتصادي والعسكري في غرب أفريقيا، وكان قادة الاستعمار يرون في الإسلام عقبة أمام مشروعهم، وخاصة ظهور الشيخ أحمدو بمب الذي كان أتباعه في تزايد، وتحول مجلسه إلى قبلة لكل الراغبين من النهل من علمه وبركته.
وجه الفرنسيون للشيخ أحمدو بمب تهمة السعي إلى خوض حرب ضدهم في السنغال، وهي التهمة التي تتنافى مع المنهج الذي أطلقه الشيخ أحمدو بمب والذي يرفض أي نوع من أساليب العنف والقتل، إلا أن الفرنسيين كانوا يرون في الرجل مناهضاً لمشروعهم الاستعماري فقرروا نفيه إلى خارج السنغال، لتبدأ رحلة صعبة خارج وداخل السنغال، اعتبرها الشيخ أحمدو بمب امتحاناً يستوجب الشكر لله، ومن هنا جاءت فكرة "ماغال طوبى".
تم نفي الشيخ أحمدو عدة مرات، كما أخضع للإقامة الجبرية في السنغال أكثر من مرة، ولكنه نفي أول مرة عام 1895 إلى الجزر الكونغولية، والتي عاد منها عام 1902، إلا أنه لم يكد ستقر في السنغال من جديد حتى قرروا نفيه مجدداً عام 1903 ولكن هذه المرة إلى موريتانيا التي بقي فيها حتى عام 1907.
لم تكن علاقة الشيخ أحمدو بمب بموريتانيا وليدة اللحظة التي وصل إليها منفياً من طرف الفرنسيين، وإنما كانت صلاته قوية بالعلماء والمشايخ الموريتانيين، وخاصة الشيخ باب ابن الشيخ سيديا وعدة شخصيات علمية أخرى، ولديه أشعار وقصص معروفة مع هؤلاء العلماء والمشايخ، تؤكد مدى الاحتفاء الذي لقيه "خادم الرسول" في موريتانيا.
في عام 1907 قرر الفرنسيون السماح بعودة الشيخ أحمدو بمب إلى السنغال، ولكنهم فرضوا عليه إقامة جبرية في قرية منعزلة، قبل أن ينقلوه إلى مدينة "جربل" تحت إقامة جبرية بقي فيها حتى وافاه الأجل المحتوم عام 1927، إلا أن كل ذلك لم يمنع ازدياد أتباعه وانتشار الطريقة المريدية في السنغال وخارجها، لتصبح بذلك واحدة من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً وقوة في غرب القارة الأفريقية.
دار القرءان في مسجد طوبى يرتل فيها القرءان على مدار الساعة - صحراء ميديا
مدينة القرءان
تقوم الطريقة المريدية على أسس عديدة من أبرزها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وخدمته، فمؤسس هذه الطريقة لقب نفسه بـ"خادم الرسول"، ولكن تدريس القرءان الكريم وترتيله يحتلان مكانة كبيرة في نفوس سكان مدينة طوبى، ولعل هذه المدينة استطاعت أن تخلق منهجاً فريداً في تدريس القرءان الكريم.
في زاوية منفردة بمسجد طوبى يجلس 28 من حفاظ القرءان الكريم، لا شغل لهم إلا ترتيل السور والآيات، حتى يكملون خمس ختمات كل يوم، إنها دار القرءان التي أسسها الشيخ أحمدو بمب عام 1903 خلال منفاه القسري في موريتانيا، وتحديداً في منطقة الصراصرة في منطقة لعكَل بالجنوب الموريتاني.
تواصل هذه المجموعة من الحفاظ عملها بشكل يومي منذ تأسيسها وحتى اليوم، يتولى الخليفة العام للطريقة المريدية الصرف على المنخرطين في دار القرءان، حتى ينصرفوا لمهمتهم الوحيدة وهي قراءة القرءان الكريم في المسجد الكبير غير بعيد من ضريح الشيخ أحمدو بمب.
ولعل من الأمور الفريدة التي تختص بها مدينة طوبى عن غيرها من المدن، كثرة مدارس تحفيظ القرءان الكريم، ومن أشهر هذه المدارس محظرة تدرس مختلف الفئات العمرية، وتنظم على شكل حلقات تحمل كل حلقة اسماً من أسماء الله الحسنى: "دار المنان"، "دار القدوس"، "دار السلام"، "دار الرحمن".. إلخ.
ويُشترط على الطالب الذي أكمل حفظ القرءان الكريم أن يكتبه عن ظهر قلب، فلا يكفي الحفظ وحده، وفي المكتبة الكبيرة بطوبى توجد نسخ لمصاحف كتبها طلاب المحظرة بأيديهم، من بين هذه المصاحف واحد كتب في جلسة واحدة من طرف عدة طلاب تخرجوا في نفس اليوم، وحضر كتابة المصحف صحفيون من مختلف وسائل الإعلام السنغالية والدولية، خلال تغطيتهم لأحد مواسم "ماغال طوبى".
حلقات تحفيظ القرءان الكريم في إحدى مدارس طوبى - صحراء ميديا
الحياة في طوبى
تعد مدينة طوبى هي ثاني أكبر مدينة في السنغال من ناحية تعداد السكان والقوى الاقتصادية، بعد العاصمة دكار، إذ يقدر عدد سكانها بأكثر من مليون نسمة، وهم في أغلبهم مزارعون وفلاحون.
إلا أن مدينة طوبى مختلفة بشكل كبير عن بقية المدن السنغالية والأفريقية، فقادة الطريقة المريدية الذين يتولون تسيير المدينة والسهر على مصالحها، يفرضون قوانين صارمة فيما يتعلق بالمحافظة على الطابع الإسلامي المميز لها، فالملاهي الليلية ومحلات بيع الخمر والمجون ممنوعة بشكل صارم في المدينة.
حتى أن الفنادق والمنتجعات تم منعها في المدينة، وشيد الخليفة العام للطريقة المريدية قصوراً فخمة وكبيرة لاستقبال ضيوف المدينة والتكفل بضيافتهم، من دون أن يحتاجوا لأي خدمات فندقية قد لا تتفق مع الطابع الإسلامي الطاغي على المدينة، فيما يفتح سكان المدينة بيوتهم للزوار الذين يقصدونها في المواسم الدينية، وخاصة ماغال طوبى الذي يتضاعف فيه سكان المدنية عدة مرات.
المشرف على مكتبة طوبى وهو يعرض مصحفاً كتب في يوم واحد بطوبى - صحراء ميديا
ماغال طوبى
لقد تحول الاحتفال بموسم "ماغال طوبى" إلى مناسبة وطنية في السنغال، بل إن دولاً عديدة تحرص على المشاركة فيه بوفود معتبرة ووازنة، ويكون الحضور الرسمي فيه معتبراً، سواء من طرف السنغال أو دول مجاورة كموريتانيا ومالي.
ولعل الموريتانيين من أكثر شعوب المنطقة اهتماماً بتخليد ذكرى "ماغال طوبى"، وهو ما ظهر هذا العام في حضور السفير الموريتاني بدكار شيخنا ولد النني، إلى مدينة طوبى حيث قدم هدية من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز إلى الخليفة العام للطريقة المريدية الشيخ سيدي المختار مباكي، متمثلة في شاحنات محملة بالإبل، كمساهمة في ضيافة الوفود التي تستقبلها طوبى، وقد استلم الهدية الموريتانية الناطق الرسمي باسم الخليفة العام للطريقة المريدية باسيرو عبد القادر، الذي شكر الرئيس الموريتاني، واعتبر الهدية دليلاً على متانة الصلة والعلاقة التي تربط الشعبين الموريتاني والسنغالي.
كما تحضور شخصيات دينية وعلمية وثقافية موريتانية وازنة إلى مدينة طوبى من أجل المشاركة في فعاليات تخليد موسم "ماغال طوبى"، وهو ما يعتبره الموريتانيون إحياء لذكرى رجل قضى عدة سنوات في موريتانيا وترك خلالها أثراً كبيراً وذكراً طيباً لدى علماء ومشايخ البلاد.